كانّ: "ولد من الجنّة” المعروض في مسابقة الدورة الخامسة والسبعين لمهرجان كانّ السينمائي (17 - 28 أيار) خيّب ظننا بشدّة، ومن المرجح ان يخيب ظن الكثيرين، لأسباب مختلفة. هذا، وبرغم التصفيق الطويل الذي ناله بعد عرضه الرسمي في حضور مخرجه والممثّلين وطاقم العمل. لكن هذه مظاهر احتفالية يجب ألا تغرينا وتذر الرماد في العيون. فالعروض الرسمية (لا العروض الصحافية) كلها تصفيق بتصفيق من ناس يشعرون بالغبطة لوجودهم في هذا الصرح السينمائي، وكثر منهم يعجبهم أي شيء وكلّ شيء.
هذا الفيلم الذي أخرجه المصري السويدي طارق صالح هو الفيلم "العربي" الوحيد المشارك في مسابقة تتضمن 21 فيلماً. لكن، كانت مفاجأة ان نكتشف اننا أمام عمل ضحل، مفتعل، متهافت، ذي بنية درامية مهزوزة، يحتاج إلى اعادة صوغ، والأسوأ انه لا يفتح أي باب للسجال من داخل الموضوع نفسه (قد يحدث سجالاً عقيماً بين الأعداء في السياسة). ربما كان الخطأ اننا توقّعنا عملاً يفتح ملف السلطة الدينية في مصر من منظور فنان يعيش في الغرب، لينبش في الصفحات التي لا تقترب منها السينما العربية كثيراً. تسنت لطارق صالح فرصة ان ينجز أول فيلم تدور أحداثه بالكامل في الأزهر، وهو المعقل الديني التاريخي الأبرز في العالم لنشر الإسلام وتعاليمه، لكن ما كان يمكن ان يكون مشروعاً يلقي الضوء على تفاصيل هذا العالم تمهيداً لقول أشياء لا نعلمها أو نطمح إلى رؤيتها على الشاشة، من مثل الصراعات العقائدية بين المتعصبين والمعتدلين في هذه المؤسسة التي بحسب الكثيرين تصنع الأصولية الدينية، حوّله صالح إلى فاصل ترفيهي على شكل ثريللر تجسسي يفتقر إلى الصدقية. نخال أنفسنا في نسخة سيئة لـ"اسم الوردة". هناك شيء من "شيفرة دافينتشي" أيضاً. لكن طارق صالح ليس دان بروان. الأكثر تأكيداً من ذلك انه ليس أومبرتو إيكّو. فلا يستطيع أكثر من تأسيس حبكة درامية على خلفية صراع بين الأجهزة الأمنية من جانب والمؤتمنين على موضوع الإيمان من جانب آخر (وبينهما مجموعات من المتطرفين والأخوان) صراع من أجل بسط النفوذ والتحكم بالسيطرة على عقول البؤساء، ليخلص بإدانة ممارسات جهاز الأمن الوطني المصري. قد لا تتوافق توقّعاتنا مع ما كان يطمح اليه المخرج في الأصل، لكن ما قدّمه في فيلمه هنا هو صراع على السلطة في منتهى التسطيح والسطحية، فاقداً كلّ الشروط التي تجعل منه فيلماً قابلاً للتصديق.
صراع سياسي - ديني في الأزهر
هكذا يبدأ كلّ شيء: آدم (توفيق برهوم) شاب ينتقل من الأقاليم إلى القاهرة ليتابع دراسات في جامعة الأزهر بعد حصوله على منحة. لن يمر الكثير من الوقت قبل ان يدرك ان المكان لا يوفّر ما كان يحلم به. سيكتشف انه وكر لشد حبال خفي بين السلطتين الدينية والسياسية. بعد موت الإمام الأكبر في الدقائق الأولى، تُرتكب جريمة يشهد عليها آدم فيضطر على أثرها إلى التعاون مع عناصر من الأجهزة لضمان وصول مرشحهم المفضّل إلى منصب الإمام الأكبر. دور الإمام مهم ويجب ان يقدّم الولاء للحكومة. لكن آدم هو لا أحد. ضائع في هذه المتاهة. تدريجاً يقحمنا الفيلم في ألاعيب قذرة مع حلول سريعة في آخر النفق. السينما ليست مجبرة على تقديم ما هو واقعي طالما انها قادرة على الاقناع. مشكلة "ولد من الجنّة" انه يحاول الاقناع بلا جدوى، فكلّ شيء يتسرب من بين أصابعه بلا انتباه، إلى درجة يصعب ان نعرف وجهة نظره. هذا كله لأنه يتعثّر فنياً وغير متماسك. لم أصدّق للحظة ان الممثّلين الثلاثة (توفيق برهوم وفارس فارس ومحمد بكري) مصريون! ثم ان أداءهم ضعيف يفتقر إلى ادارة حسنة. والعائق ليس على مستوى اللكنة فحسب، بل يتأتى من غياب الروحية المصرية في الفيلم. حتى في محاولاته لجعل الشخصيات أكثر تعقيداً ممّا هي عليه في الحقيقة، يفشل فشلاً مدوياً.
يقدّم الفيلم وجبة إكزوتيكية قد تسد جوع كثر في الغرب. لأن المسألة في الأساس مسألة تصوّرات خاطئة تغذي سوء الفهم بين الشرق والغرب. المُشاهد الغربي الذي ينتمي إلى معسكر سياسي معين سيعتقد ان الفيلم يروي صراعاً بين النور والظلام وان العسكر يحمون بلادهم من شر الأصوليين. مُشاهد غربي ينتمي إلى معسكر سياسي آخر سيتعاطف حتماً مع المتدينين باعتبارهم ضحايا ابتزاز ومساكين مضطهدين. النتيجة: الجميع يخرج رابحاً من هذا المشروع الذي يخلط الأوراق. الا السينما.
وجبة إكزوتيكية لسد جوعالغرب