النهار

برلين 73 - "وحش الأدغال" لباتريك شيحا: السينما فنّ الانتظار!
هوفيك حبشيان
المصدر: "النهار"
برلين 73 - "وحش الأدغال" لباتريك شيحا: السينما فنّ الانتظار!
"وحش الأدغال" لباتريك شيحا المعروض في قسم "بانوراما".
A+   A-
"وحش الأدغال" للمخرج النمسوي من أصل لبناني باتريك شيحا، المعروض في قسم "بانوراما" هو الفيلم الأكثر جنوناً إلى الآن في مهرجان برلين السينمائي (16 - 26 شباط). فتاة وشاب (أناييس دوموستييه وتوم ميرسييه) يلتقيان في مرقص ليلي. نحن في الثمانينات. زمن الديسكو والحياة الطليقة، قبل ان تفسدها التكنولوجيا وتدهمها مستلزمات الحياة العصرية وتأتيها الأمراض ويكسحها الاستهلاك وتشوهها الرأسمالية أكثر فأكثر. الشاب الذي يُدعى جون يقول انه ينتظر حدثاً عظيماً سيغيّر مجرى حياته، لا بل كلّ شيء من حوله، وسيرتقي به. انه الحدث الذي لا حدث من بعده والذي ينتظره منذ الولادة، وربما خُلق من أجله. لا أحد يعرف ما هو الحدث. هو نفسه لا يعرفه. جون هو نوعاً ما مسيح هذا النادي، يبشّر بالآتي ولا يبالي بما فات. انه ينتظر الحدث مهما كلّف الثمن ومهما طال الزمن ولن نعرف طبيعة هذا الحدث الا قبل دقائق قليلة من الخاتمة، وهذا لا يعني بالضرورة اننا نعلم، لأن ثمة فرقاً بين ان نعلم ونعتقد اننا نعلم. المهم ان جون الهادئ والرصين، شاحب اللون وباهت الحضور، يعتقد ان لا قيمة لأي شيء من دون هذا الذي سيأتيه ويحمله إلى حيث كلّ شيء. في لحظة لا أكثر، سيقنع الفتاة ماي بأن تنتظر معه، وستقتنع رغم وجود رجل في حياتها. من 1979 إلى 2004، أي طوال 25 عاماً سينتطران. سيتغير الديكور من حولهما مراراً. فالديسكو سيصبح تكنو واللامبالاة سيهددها الخوف من الاصابة بالسيدا، وإلى ما هنالك من تطورات في الظاهر والباطن تروي تقدّم الزمن الذي لن نراه على محيا بطلينا العنيدين المصممين على الذهاب إلى آخر الطريق. 
 
 
باتريك شيحا اقتبس رواية هنري جيمس (1843 - 1916) بتصرف. لم أطّلع على الرواية كي أقارن بينها وبين الفيلم. أجهل أي عناصر في الفيلم مصدرها الرواية وأياً منها تخرج من مخيلة المخرج الذي يمكن القول انها خصبة ولديها قدرة على خلق احساس ترقّب اللاشيء. في النهاية، لا يهم فعلاً ان نعرف مصدر الأشياء، هناك أمامنا فيلم خاص جداً ولجمهور محدود، وهذا هو الأهم. انه فيلم لا نظير له على مستوى الاحساس الذي يبثّه وهو ينمو في داخلنا لقطة بعد لقطة، وهو احساس غير مريح قد يخربط علاقتنا بالسينما وبالنحو الذي نتلقّى فيه الأشياء. هذا فيلم تحبّه أو تكرهه، وسواء أحببته أو كرهته، لن تجد الكلمات المناسبة لتبرير الحبّ أو الكره. ذلك ان المسألة هنا تتعلّق بالايمان المطلق بما نراه أو بالانفصال المطلق عنه. لا حلّ وسيطاً ممكناً في ظلّ غياب أي مرجع نقارن به الأشياء. 

نظرة عن قرب على الفيلم، فنكتشف ان لا شيء يحدث فيه، والأفلام التي تغيب فيها الأحداث الكبيرة هي الأكثر تشويقاً، لأنها أقرب إلى الحياة، حيث التكرار اليومي الذي نحاول ان نضيف اليه معنى ما، بجهدنا الخاص. كأي سينمائي كبير، يصوّر باتريك شيحا الزمن وتحولاته وآثاره في الناس، من خلال حفنة من الشباب يرقصون ويتمايلون ويقومون بحركات رتيبة ومتكررة، وهم عبر ذلك الرقص يعتقدون انهم يهربون من الزمن. وفي هروبهم هذا، ينتظرهم الزمن، وهو خلف الباب يفاجئهم. أما جون وماي اللذان ينتظران الزمن ولا يهربان منه فهما يعيشانه ويشعران به. 
 

من خلال قصّة كهذه، تحمل في داخلها الكثير من العبثية والمواقف المتكررة التي تضعنا أمام شرطنا الإنساني، أعطى شيحا فيلمه طابع الميثولوجيا الاغريقية. فالرجل الذي خرج بفكرة الانتظار، لا يمكن ان يكون كائناً عادياً، فهو "المختار" (بالمعنى الديني) والمرقص أرض الميعاد حيث المستحيل ممكن. بحكاية بسيطة، ومع ذلك لا تخطر في بال أحد، يروي الفيلم المحمّل معاني ودلالات، معضلة الإنسان الحالي، القلق الدائم والتائه بين الواقع الذي يعيشه والأحلام التي يداعبها. والفيلم، كما يقول المخرج، يتناول مسألة لا نأتي على ذكرها دائماً وهي ان حيواتنا دائماً لحظات مؤجلة، نضيّع الكثير من الوقت ونحن نفكّر كيف سنعيشها. هذه الفكرة، المخبأة والجميلة التي تطرقت اليها قلة، هي سينمائية الى أعلى درجات السينما، وهي ما تتجلى في الفيلم من خلال كلّ لقطة. فكرة شيحا، وقبلها الرواية، سينمائية، لأن السينما هي أولاً وأخيراً احساس بالزمان والمكان. لا فيلم من دونهما. 

في لقاء مع الجمهور لم يقلّ عبثية عن عبثية الفيلم، فتح باتريك شيحا قلبه للمشاهدين. هو الذي يؤمن بالفرق بين ان يُري وان يقول، صرّح: "العناصر الاجتماعية في الكتاب مختلفة تماماً عن الفيلم. كان عملاً ضخماً ان نضع سيناريواً لا يحدث فيه أي شيء. جون في الكتاب رجل ثري، أما ماي فهي اريستوقراطية بلا مال. لم أرغب بهذا الكونتراست. لم يكن هذا موضوعي. امتنعتُ عن اعطاء الاحساس انها تنتظر من أجله. كلاهما مصاب بالجنون. هناك جملة مهمّة تقولها في الفيلم: الحياة رواية! وها انها عثرت على شخص يستطيع ان يهبها رواية عظيمة (…)”.  
 

عن الكوريغرافيا والرقص والحركة المتواصلة في خلفية الفيلم، يقول شيحا: “Motion is emotion. (الحركة انفعال). أول فيلم في التاريخ هو عن قطار يدخل محطة. قيل مراراً ان المشاهدين هربوا من الصالة لأنهم خافوا من القطار. لا أظن انهم كانوا على هذا القدر من الغباء. لعلهم هربوا لأنهم شعروا بكمية من الانفعال. هذا الفيلم تحفة، أعشقه. نتساءل لماذا السينما تحبّ الحركة إلى هذا الحد. ما نشعر به في السينما هو البشرة والحركة. وددتُ ان أصوّر البشرة والحركة. الناس الذين في الفيلم ليسوا كومبارساً. انهم أشخاص حقيقيون جاؤوا ليرقصوا ويستمتعوا. صوّرنا خلال الوباء وكنّا النادي الليلي الوحيد في بروكسيل الذي فتح أبوابه. كان الناس يصطفون في طوابير منذ الثامنة صباحاً بعدما انتشر خبر بأننا الأفضل في المدينة. هذا فيلم جسدي جداً واشتغلنا بأجسادنا. كنّا نضحك بعض الشيء خلال التصوير، في بداية كلّ يوم، خصوصاً مع أناييس التي كانت تطلب منّي بعض التفسيرات والشروح في ما يتعلّق بالمشهد الذي كنّا في صدد تصويره، فكنت أقول لها "هل تريدنني ان أكذّب عليك؟ لا أحب ان ألعب دور المخرج الذي يعرف كلّ شيء". في المحصّلة، كانت تجربة فنية رائعة لأنه كان من الممكن ان نقع بسهولة في الكيتش أو اللا شيء. لم نكن نعرف علامَ سنحصل. أجرينا اختبار تمثيل لاختيار الممثّلين، وهذا أمر مريع لأن المخرج يتظاهر بأنه يعرف عمّا يبحث والممثّل يعتقد انه يعرف عمّا يبحث المخرج. لا تتعلّق السينما بـ"ان تعرف"، هي فنّ "ان تنتظر" كي تحصل على مفاجأة".   

اقرأ في النهار Premium