النهار

برلين 73 - نيكولا فيليبير: الإنسان أولاً!
هوفيك حبشيان
المصدر: "النهار"
برلين 73 - نيكولا فيليبير: الإنسان أولاً!
"على قارب الأدامان" لنيكولا فيليبير.
A+   A-
لم يحظَ المخرج الفرنسي نيكولا فيليبير مع فيلمه الجديد، "على قارب الأدامان"، بالاهتمام الذي يستحقّه، خلال عرضه في مسابقة مهرجان برلين السينمائي (16 - 26 شباط)، رغم شهرته في مجال الوثائقي، وأفلامه التي عُرضت على نطاق واسع في عدد كبير من المهرجانات. لم أجد الا عدداً قليلاً من المقالات عنه على الشبكة العنكبوتية، مع ان بعض المواقع المتخصصة، لا تفوّت الفرصة في الكتابة عن أي فيلم مهما كان تافهاً. خلال توجّهي إلى الصالة لمشاهدة الفيلم في العاشرة ليلاً، التقيتُ زميلاً، فوصفني ساخراً بـ"الصحافي الجديّ". في عالمنا الحالي، حيث السرعة في كلّ شيء، تقلّصت المساحة المخصصة لأفلام كهذه، تحاول النظر في عمق الإنسان أو النظر اليه بعمق، بعد تجريده من كلّ الاعتبارات غير الإنسانية. فيليبير استاذ في هذا. على غرار فريدريك وايزمان، ينجز الأفلام بهدف اسكتشاف العالم، لا يذهب إلى موقع التصوير بأفكار نمطية ولا يقارب الشخصيات بمواقف جاهزة. لا يعرف فيليبير أكثر منّا عن شخصياته في اللحظة التي تدور فيها الكاميرا، شخصياته يكتشفها بلحظتها وبـ"أرضها"، لا يسابق ولا يراوغ. من أهم ما فيه انه يعلم انه لا يعلم، ومن هنا يتولّد عنده الفضول. كأن الاطلاع المسبق هو حاسة لديه، اذا حجبها ازدادت حساسية الحاسات الأخرى وأولاها النظر. مع الزمن، تغيّر الوثائقي كثيراً، وهو في الأساس فنّ يتيح لصاحبه ان يصوّر فقط ما لا يزال يجهله. فيليبير يعود بأفلامه إلى أصل الوثائقي.


أفلام فيليبير ورش عمل، بعضها أقرب إلى الـWork in progress، بمعنى انه يعرف جيداً أين تبدأ التجربة لكنه يجهل كيف وأين تنتهي. سواء صوّر كواليس اذاعة أو تسلل إلى صفوف تلامذة أو وضع كاميراه داخل مستشفى للأمراض العقلية، يهتم فيليبير بالإنسان أولاً. هو قضيته المحورية. لا تغريه اللقطات الجوية ولا تهمّه المؤثرات البصرية. "الكوميديا الإنسانية"، على حدّ تعبيره، هي الشيء الوحيد الذي يستعرضه. ولأن الأسلوب هو الفنّان، لفيليبير بصمة نتعرف إليها من بضع لقطات. لا نحتاج إلى الكثير من الجهد كي نتعرّف إلى فيلم يحمل توقيعه. هذا الأسلوب يتمظهر في أشياء كثيرة، أبرزها النحو الذي يصوّر فيه الشخصيات والمسافة التي يحاورها منها. المسافة في الوثائقي هي كلّ شيء، لهذا نجد في أفلامه هذه الحميمية وهذا الدفء. يختفي فيليبير خلف الموضوع مانعاً نفسه من ان يصبح الموضوع، على نقيض العديد من حاملي الكاميرات الذين يصوّرون أي شيء وبأي طريقة. أما المونتاج فهذه حكاية عنده؛ بسيط ومحرك للكثير من الأحاسيس. عندما التقيته في 2014، أخبرته ان المونتاج يختزل شخصيته ويعبّر عنها. فكان رده: "المونتاج هو المرحلة الابداعية التي أفضّلها في عملية إنجاز الفيلم. في أفلامي الأولى، كنتُ أستعين بمونتيرة، وعندما تعلّمتُ كيفية المونتاج صرتُ أتولاه بنفسي، والآن لشدّة ما يثير فيّ المتعة، لا أريد مشاركته مع أحد. أين نقطع وكيف، هذا شيء يغيّر الكثير من الأشياء في الفيلم الذي ننجزه”.


في "على قارب أدامان"، يبقى فيليبير مخلصاً لعادته ولا يزيح عنها، فيقترب من شخصيات متعددة من دون ان يحوّلها موضوعاً أو مادة. لا يتحوّل الشخص أمام كاميراه موضوعاً يخدم قضية، مهما تكن هذه القضية نبيلة. ففي الحياة، لا توجد مواضيع، لا توجد تصنيفات، الأشياء تختلط في ما بينها وتتزاحم. لعل فيليبير هو الوحيد الذي يحاور مجموعة من الناس المختلفين عن سائر البشر، من دون ان يعلن مسبقاً ممّا يشكون. هؤلاء بالنسبة للعالم مرضى يرتادون قارب "أدامان" الذي يرسو على السين ويفتح أبوابه لهم ليجدوا فيه مكاناً دافئاً يبعث على الطمأنينة والراحة بعيداً من بياض المستشفيات القاسية، ولينخرطوا في بعض النشاطات العلاجية. هذا بالنسبة للعالم، أما بالنسبة لفيليبير، فهم شخصيات رحلته الاستكشافية. والرحلة تورّط تلقائياً ثلاثة أطراف: المخرج والشخصيات والمُشاهد. انه المثلّث الذي لا يمكن صناعة أي فيلم من دونه ومن دون العلاقة التفاعلية التي تنشأ بينهم.


هكذا يرتقي فيليبير بفيلمه الجديد، فيصل إلى مستويات من الإنسانية تجعلنا نعبر في جملة أحاسيس متضاربة. تضحكنا وتثير فضولنا وتبثّ فينا جرعة من التفاؤل، رغم ان ما يتناوله سقمٌ بسقم اذا نظرنا اليه بنظرتنا الضيقة للإنسان. بفيض الإنسانية الذي يملكه، يسعى فيليبير إلى تعديل تلك النظرة. واذا وجدنا أنفسنا على موعد مع التفاؤل، فذلك ليس بسبب الشخصيات، بل لأن هناك مَن ينظر اليها على هذا النحو.
إعلان

الأكثر قراءة

كتاب النهار 11/22/2024 3:23:00 AM
المنطقة وسط أجواء أو تفاعلات حربية مع هوكشتاين ومن دونه، لذا ليس في جعبته ما يعطيه للبنان، كما ليس لأي أحد ما يعطيه للفلسطينيين في هذه الظروف والمعطيات.

اقرأ في النهار Premium