النهار

برلين 73 - "المرهقون": الاجهاض استعارة لتصوير مأزق العيش في اليمن
هوفيك حبشيان
المصدر: "النهار"
برلين 73 - "المرهقون": الاجهاض استعارة لتصوير مأزق العيش في اليمن
"المرهقون"، فيلم يمني في مهرجان برلين.
A+   A-
"المرهقون" لعمرو جمال، المعروض داخل "بانوراما" في مهرجان برلين السينمائي (16 - 26 شباط) أعادني إلى فيلم يمني كنت شاهدته قبل سنوات عدة في مهرجان دبي وكان شديد السوء. السينما غير الموجودة في اليمن، خرجت منه في السنوات الفائتة أعمال معدودة. ان يشق هذا الفيلم طريقه إلى واحد من أهم المهرجانات في العالم ليصبح محل احتفاء عند البعض، أمر يمكن تفهّمه، نظراً للفرص القليلة التي يحظى بها اليمنيون للفرح. وهذا الأمر (تعاسة العيش) واضح أيضاً في الفيلم، مرسومٌ على وجوه الأشخاص الذين لا وقت لديهم ليظهروا شيئاً آخر غير مأزق العيش في بلد لا يمنح أبناءه سوى القلق والحزن. يروي الفيلم بلقطات باردة وبطيئة تنزلق تدريجاً إلى نوع من القدرية، الحالة المعيشية الصعبة التي يشكو منها اليمنيون، هؤلاء الذين هم على الأرجج الغالبية في بلد منكوب تغيب فيه كلّ مقومات العيش الكريم، يشهد انهيار الطبقة الوسطى جراء الوضع الاقتصادي. سنرى كيف ان اسرة تعيش في منزل سليم، ستضطر إلى البحث عن بيت غير صالح للعيش. الفيلم يأخذ من مدينة عدن مركزاً للأحداث. الأسرة المشار اليها مؤلفة من خمسة أفراد، الأب والأم (خالد حمدان وعبير محمد) والأولاد الثلاثة. ماذا سيحدث عندما تعلم الأم بأنها حامل بطفلها الرابع؟ أي حياة تنتظر طفلاً في مثل هذه الظروف؟ لا يُخفى على أحد بأنه سيكون عبئاً أضافياً على عاتق مَن يطلق الفيلم عليهم تسمية "المرهقون". الخيار الوحيد هو الاجهاض، لكن الإجهاض ليس حلاً سهلاً في بلد محافظ مثل اليمن يعتاش على تقاليد محافظة.

في هذه البيئة الضاغطة التي صنعتها الحروب والمآسي، حيث فقدان أساسيات الحياة اليومية من كهرباء وماء وأمن، بات شيئاً عادياً، نتعرف إلى الزوجين إسراء وأحمد، من دون ان نشهد على أي حميمية بينهما. إسراء وأحمد سيجدان نفسيهما في مشكلة أكبر منهما ويجب عليهما التعامل معها بحذر. فالمعضلة التي يواجهانها تغدو أصعب لأنها تتعلّق بحياة تنمو في أحشاء الأم كلّ يوم أكثر فأكثر، والتخلّص منها يحمل دلالات اجتماعية وسياسية واقتصادية. أضف إلى هذا، الصراع الداخلي الدائر بين شخصين عاديين، والنزاع بين الرغبة الشخصية من جانب والدين والمجتمع من جانب آخر. لكن يبدو ان هناك دائماً قراءات جديدة للدين وفتاوى تجيز وتمنع، ولا بد من الاستماع اليها.

عدد غير قليل من الأفلام نقل مسألة الاجهاض في ظروف صعبة، وكان الاجهاض في السينما أحياناً نوعاً من الاستعارة السياسية. يحبّ السينمائيون موضوع الاجهاض، لأنه حمّال أوجه ومعانٍ ويقول الكثير عن حال المجتمع والناس والقوانين والأخلاقيات والبيروقراطية دفعة واحدة، وذلك من خلال رفض المرأة ان تأتي إلى العالم بكائن سيعاني من كلّ ما عانته. لكنها نادرة أفلام الاجهاض والخطوات المتتالية للتخلّص من الجنين حيث هذا القدر من الانتهاك لحميمية المرأة.

"انه الاقتصاد أيها الغبي"، صاح ذات مرة مستشار بيل كلينتون، وهو كان يدري تماماً عمّا يتحدّث في جملته العبقرية هذه. نعم، انه الاقتصاد الذي يتفاعل مع كلّ شيء، خصوصاً في الأنظمة الهشّة حيث يأكل الأخضر واليابس بلا رحمة. والسينما العربية لطالما تجاهلت انعكاس الأوضاع المادية على حياة الناس، صارفةً النظر عن حقيقة انها تصنع المجتمعات الحديثة. بعض التجاهل قد يأتي من فكرة مغلوطة مفادها ان الحديث عن هذه الأحوال انتقاص من كرامتهم البشرية أو الدخول في منطقة محظورة. في أي حال، لا يتردد عمرو جمال من هدم بعض القيم الزائفة عند الحديث عن موضوع يلمس المرأة بشكل خاص، مع اللافت انها ستدفع الضريبة وهي التي ستضحّي.

هذا على مستوى المضمون، أما شكلاً، فالفيلم يصرف مجهوداً لإيجاد هوية خاصة به. هل يجد في النهاية؟ لا أعتقد ذلك. فلغته وجمالياته وتقنيات السرد التي يلجأ اليها ليست أصيلة مئة في المئة، بل رأينا مثلها في العديد من الأفلام، أكانت من شرق أوروبا أو تركيا أو إيران أو حتى الهند، البلد الذي جاء الفيلم منه بمدير التصوير مرينال ديساي. في النهاية، وعلى سبيل الانصاف، يمكن الاشادة بجرأة هذا العمل في تناول موضوع حسّاس ضمن البيئة العربية الإسلامية، لكن على المستوى السينمائي، هناك بعض العمل على الطاولة. طفل إسراء لن يولد، لكن وُلِد بدلاً منه سينمائي يجيد نقل مأساة مرهقي بلاده من خلال الحياة اليومية.
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium