كثيرون ينتظرون جديد ديفيد كروننبرغ في مهرجان كانّ السينمائي الخامس والسبعين (17 - 28 أيار) الذي ينافس على "السعفة الذهب". المنتظرون من داخل كانّ وخارجها. يكفي ان أنشر أي صورة أو معلومة عن مخرج "كراش" على وسائل التواصل كي ألمس الاهتمام به. هناك مَن يكن له حبّاً غير مشروط وهناك الذين يتذوقون أعماله فقط اذا خاطبت ذائقتهم. والفرق كبير بين الجمهورين. "جرائم المستقبل" يرضي الجمهور الذي يتوقّع من كروننبرغ ان يكون كروننبرغياً (ولا يكفي ان يكون كروننبرغ). أي ان يبقى مخلصاً لنفسه، وللأشياء التي صنعته بقدر ما صنعها. وفي هذا المجال، لن يخيب ظن المتعصّبين لفنّه. كروننبرغ يعود إلى ما هو بارع في فبركته. سيد الرعب المتمحور على الجسد يقدّم عملاً يحتاج إلى قلب قوي كي لا نغمض أعيننا أمام مقاطع قاسية كأم تخنق ابنها الصغير.
لم يمل كروننبرغ ولم يكل من هذا العالم الذي يعج بالغرائبيات والسقم والعلاقة بالجسم والميتافيزيك. لكن، مهلاً، لسنا أمام معلّم من معلّمي الاستفزاز المجاني. يعرف المخرج الكندي ماذا يفعل وماذا يقول (وكيف يفعل وكيف يقول)، ولو انه يبقى سيد العارفين بما يفعله ويقوله، ولو انه أيضاً ليس كلّ ما يقوله ويفعله يصلنا كمادة فكرية خالصة. لهذا السبب هو طليعي، فلطالما سبق زمنه. نحن في حضور فنّان مسيس، يحمل رؤية للعالم وخطاباً عن مصير الإنسان، لكن يرويهما بأدواته، بلغته، بالصور التي يحتاجها هو لا بالصور التي يفرضها عليه الذوق العام، هذا الذوق المشوّه جراء التكرار، بحيث لم تعد (الصورة) تختلف عن سائر الصور الا في المكان الذي التقطت فيه. ولا مبالغة في القول انه يروي بأحشائه أيضاً. في هذا، هو فنّان حر، مستقل، لا منتمٍ، يمارس هواية بقدر ما يقوم بوظيفة أو واجب، وذلك بميله الفطري إلى القصص التي تضع الجسد في قلب القلق على الإنسان والخوف منه. يعانق كروننبرغ علم الخيال من جديد بسينما لا تعترف بأي حدود. حدودها الوحيدة؟ المخيلة وانفتاح المؤلف على كلّ ما هو مستجد ومثير، على التجربة والاختبار، على كلّ ما يعيد رسم العالم من منظور جديد. منظور قد يكون صادماً في بعض الأحيان، لا بل مرفوضاً، لأن كلّ شيء يخرج عن الخط لا بد ان يكون مصيره الرفض.
فيغو مورتنسن في عالم كروننبرغ!
محور "جرائم المستقبل" شخصيتان (فيغو مورتنسن وليا سايدو) تمداننا بإحساس انهما يتحدّران من عالم كروننبرغ. وهذا بديهي كوننا في فيلم لكروننبرغ. نراهما يستئصلان الأعضاء البشرية بهدف تقديمها في إستعراض فني معاصر. هذا أقرب تعريف لما نراه على الشاشة، اذ ليس كلّ ما نشاهده قد يكون صالحاً للشرح والتأويل. مشهداً بعد مشهد، نعود إلى البداية مع عودة الأم التي سُجنت بعد مقتل ابنها الصغير، لنفهم اننا في مستقبل قريب، حيث ما عاد مستغرباً ان يعيش البشر تحولات بيولوجية، اختفت معها أشياء مثل الألم والاصابة بعدوى. في المقابل، بدأت تنمو عند الناس أعضاء جديدة، ومعها ظهرت ممارسات جديدة بعضها راديكالية. "الجراحة نوع جديد من الجنس" تقول كريستن ستيورات في أحد المشاهد الأكثر طرافةً. بلى طرافة، لأن كروننبرغ لا ينسى حس الدعابة حتى في الأجواء السقيمة.
أهمية كروننبرغ، على هامش ما يقوله، انه يستمتع بما يصوّره ويحتفي بهذه المتعة مع المُشاهد. رغم الثمانين، لا يزال فيلمه يحتوي على شغف. رغم جذرية طرحه، هناك دائماً مجال للأخذ والرد. وهل نتوقّع من سينمائي حوّل رجلاً إلى ذبابة عكس ذلك؟ قد لا تحرّك سينماه مشاعرنا التي تبلّدت جراء السينما السائدة والتكرار القاتل، لكن يجب ان نعترف بأنه صاحب حرفة وصنعة يتقن كلّ مراحل صناعة الفيلم، من التأطير إلى التقطيع فالحفاظ على مستوى الإيقاع واشاعة جو القلق… لا توجد دعسة ناقصة في الفيلم، ولهذا نتفهّم ان يحمله البعض على الراحات ويرفضه البعض الآخر رفضاً قاطعاً. فلا يوجد بين بين عند كروننبرغ.