في مناسبة مرور 60 عاماً على عرضه الأول، أقدم "استوديو كانال" بدعم من المركز السينمائي الفرنسي على سحب نسخة جديدة مرمّمة لـ"الاحتقار"، رائعة جان لوك غودار. يُعرض الفيلم في الدورة الحالية من مهرجان كانّ السينمائي (16 - 27 أيار) ضمن فقرة "كلاسيكيات كانّ"، وسيصبح متوافراً للتحميل وفي صالات السينما بدءاً من الرابع عشر من الشهر المقبل. أربعة بلدان ستشهد عروضاً تجارية له: فرنسا، ألمانيا، بريطانيا وأميركا. في هذه المناسبة، صُمِّم ملصق جديد للفيلم تولاه الفنّان البلجيكي لوران دوريو.
عملية الترميم تطلّبت 220 ساعة عمل وتم استخدام النسخة الـ35 ملم لهذا الغرض بعدما استعين بالنسخة كمرجع كان عمل عليه المصوّر راوول كوتار في العام 2002 وهو الذي كان التقط مشاهد الفيلم في العام 1962. النتيجة: تنقيح شامل لكلّ التشوهات التي أحدثها الزمن في الفيلم، سواء على مستوى الاضاءة أو الألوان. أعمال الترميم هذه ستتيح للمشاهدين ان يتفرجوا على "الاحتقار" على النحو الذي كان يجب ان يُشاهَد في الأصل.
ميشال بيكولي وبريجيت باردو في "الاحتقار".
"الاحتقار" (1963) ذروة أخرى في الفنّ الغوداري. فيلم عن السينما ومن داخلها. من الصعب إيفاء حقّ هذا الفيلم "الاسطوري"، الذي جاء مراراً في قائمة أفلام النقّاد العشرة المفضّلة العابرة للأزمنة. منذ الجنريك، يضع غودار أسس سينما معارضة، تتجلّى من خلال كلمة أندره بازان في التعليق الصوتي: "السينما تستبدل بنظرتنا عالماً يتطابق مع رغباتنا". الجملة كانت تحية لمعلّمه بازان الذي توفي قبل بضع سنوات من دون ان يرى "الموجة الجديدة". ثلاثة من الكبار يضطلعون بالأدوار الرئيسية: ميشال بيكولي، بريجيت باردو وفريتس لانغ. صُوِّر الفيلم في كابري الإيطالية ويتضمّن مناظر خلابة للبحر انطلاقاً من التلّة التي تقع عليها الفيلا حيث مكان اقامة الشخصيات. مشاهد المداعبات والكلام اللذيذ بين بيكولي وباردو ("أحبّك بتراجيديا" يقول لها)، بالاضافة إلى نزلات الكاميرا وطلعاتها على جسد ب. ب. بعدسة راوول كوتار وعلى موسيقى جورج دولورو التي تلح كاللازمة، دخلت معبد الصورة الحيّة وخلقت مفهوم ادمان نظرة الآخر في السينما المعاصرة.
أما الحكاية فليست أكثر من كونها تروي اللحظات الأخيرة من علاقة بين رجل وامرأة أصبحا على عتبة الانفصال. فكلّ شيء يبدأ مع وصول بول وزوجته كاميّ (بيكولي وباردو) إلى كابري حيث من المتوقع ان يساعد المخرج فريتس لانغ (يلعب ذاته في الفيلم)، لمواصلة عملية كتابة سيناريو فيلم "عوليس" وتصويره في تشينيتشيتا بطلب من منتج أميركي (جاك بالانس). لكن العلاقة ستتأزم بين بول وزوجته، ظنّاً منها أنه يرميها في أحضان المنتج كي يتسلّم المهمّة. في اعتقادها انه ما عاد ينظر اليها ولا يحبّها. وفي حين هو مشغول بالسيناريو، تتكاثر الشكوك وينمو الاحتقار في قلب كاميّ، الأمر الذي لا يفهمه بول فيتحوّل عدم فهمه إلى غضب.
أُسأل دائماً من محبّي سينما شباب: من أين ينبغي البدء في الاطلاع على سينما غودار؟ ربما من "الاحتقار"، مع التشديد على فكرة ان ما من فيلم لغودار يلخّصه أو يعطي فكرة ولو بسيطة عن منجزه. نحن أمام رائعة قاومت الزمن. هناك رمزيات لا يسهل التقاطها من المشاهدة الأولى، ويستغل غودار هذا كله كي يطرح نظرياته في السينما بين الحاضر والماضي، بين سينما الآباء المتمثّلة في صورة المنتج و"الموجة الجديدة" التي تتخذ ملامح باردو. وما بيكولي بقبّعته وسيجاره، الا "غودار ثانٍ"، يلملم ألمه قبل الذهاب إلى الموت.
يمكن النظر إلى "الاحتقار" من زوايا متعددة. لكن الزواية التي تفرض نفسها أكثر من غيرها، هي المستوى الأول من القراءة: تخبّط زوجين في إيطاليا، وهو الشيء الذي يصوّره غودار بأسلوب يجعلنا نعتقد أنه انزلاق إلى الهاوية. وهذا ما سيحدث في النهاية: انزلاق إلى الهاوية، لكن على طريقة غودار.
قد يكون "الاحتقار"، المقتبس بتصرف من رواية لألبرتو مورافيا، أشهر أفلام غودار مع "مخطوف النفس"، وهو أيضاً أضخم إنتاج ناله، نتيجة الاستقبال غير المتوقّع لفيلمه الأول. كان غودار في مطلع الثلاثينات من عمره عندما وقف خلف الكاميرا يدير لانغ وبالانس، بيكولي وباردو. واذا كانت النظرة إلى السينما اختلفت بعد بازان الذي أخذ ينظر في جمالياتها ويطرحها كفنّ نهائي لا كفنّ تابع للفنون الأخرى، فإنها اختلفت أيضاً بعد غودار، على الأقل على مستوى النظر إلى الأشياء. والنظرة ليست كلمة عابرة في الحديث عن "الاحتقار"، بل تشرح المضمون بأكلمه. فما أنجزه غودار، هو فيلم عن النظرة، تلك التي لا يرمق بول بها زوجته، ويصبح بالتالي متّهماً. والخيانة التي تعتقدها تأتي من كونه ما عاد ينظر اليها. في السينما عموماً، و"الاحتقار" بشكل خاص، لا وجود لأي شيء سوى في المجال الذي تتيحه نظرة الآخر. نظرة كافية كي نشعر بأننا أحياء.