يروي "تشريح سقوط"، فيلم الفرنسية جوستين ترييه الذي نال "السعفة الذهب" في مهرجان كانّ الأخير (16 - 27 أيار) وفاة زوج (سامويل تييس) سقوطاً من أعلى نافذة الشاليه الواقع في منطقة جبلية، وكان انتقل اليه قبل سنة مع زوجته (ساندرا هولر) وابنه البالغ من العمر 11 عاماً. تفشل التحقيقات في التوصّل إلى معرفة ما اذا كان الحادث جريمة متعمّدة أو انتحاراً، لكن القضاء يقرر توجيه الاتهام إلى الزوجة، وهي كاتبة ألمانية اختارت العيش في فرنسا حبّاً لزوجها، بعد اكتشاف تفاصيل تدينها.
ستفجّر جلسات المحكمة العديد من الأسئلة المعلّقة، والريبة والشكوك، محورها تخبّط هذا الثنائي الأربعيني. تقدّم ترييه طوال ساعتين ونصف الساعة سينما رشيقة ومثيرة وعميقة لا تشعرنا بأي ملل، حيث يسمرنا على الكرسي، تطور الأحداث والتوق إلى مشاهدة الخاتمة. نحن، كمشاهدين، لا نعرف أكثر من المحكّمين، ونجهل تماماً ما اذا كانت الزوجة مذنبة أو بريئة، فكلّ شيء ممكن، كون الفيلم يسلّم نفسه لكلّ الاحتمالات، واضعاً ايانا في قلب المعمعة. نصبح طرفاً فعّالاً في القضية، نتفاعل معها على مدار اللحظة. ترييه لا تبحث عن مُشاهد سلبي، كما انها لا تبحث عن فيلم يلفت الأنظار بتقنيات جذب زائفة ومفتعلة. لا تذعن إلى صناعة تشويق رخيص، بل تحاول فهم الأشياء من الداخل، بتعداد الأسباب النفسية والاجتماعية والعاطفية التي قد تجعل رجلاً مملوءاً بالحياة يختار الرحيل انتحاراً.
في المقابلة الآتية، المنشورة ضمن الملف الصحافي الخاص بالفيلم، تتحدّث ترييه عن تفاصيل إنجاز هذا العمل النفسي المعقّد الذي ينظر في عمق العلاقات العاطفية والزوجية المتداخلة، بعيداً من ثنائيات الظالم والمظلوم والمستغِل والمستغَل والقاتل والقتيل.
“تشريح سقوط”، الفيلم الفائز بـ”السعفة”.
1 – "وددتُ الذهاب إلى ما بعد التعقيد"
"وددتُ ان أصوّر فيلماً عن هزيمة زوجين. تجسّدت الفكرة في رواية سقوط جسد، على نحو تقني، وتحويل هذا السقوط إلى صورة لسقوط الزوجين ولسقوط قصّة حبّهما. للزوجين ابن يكتشف قصّة أهله خلال المحاكمة - محاكمة تشرح علاقتهما على نحو ممنهج - وهذا الصبي ينتقل من كونه طفلاً لديه ثقة مطلقة بأمه، إلى مرحلة الشكّ. الفيلم سيعاين هذا الانتقال. في أفلامي السابقة، كان للأطفال حضورٌ، لكن من دون كلام، كانوا هنا ولكن لا نسمع وجهة نظرهم. وكأنه آن أوان ضم نظرة الطفل إلى الحكاية وخلق توازن بين نظرته ونظرة ساندرا، الشخصية الرئيسية. يتحوّل الفيلم تدريجاً إلى استجواب طويل: من المنزل إلى المحكمة، لا يعود هناك شيء آخر سوى سلسلة مشاهد حيث الشخصيات تخضع لمساءلة. وددتُ أن أعود إلى المزيد من الواقعية، بالمعنى الوثائقي للكلمة، سواء على مستوى الكتابة أو الشكل. فعلتُ ذلك كي أذهب إلى ما بعد التعقيد. لا توجد موسيقى في الفيلم وهو أكثر صفاءً من أعمالي السابقة".
2 – "فكرة جسد يسقط تلازمني منذ فترة طويلة"
"هاجس السقوط حاضر في الفيلم، خصوصاً بشكله المادي والملموس. ماذا يحدث عندما يسقط شيء ما؟ فكرة "ثقل الجسد" أو جسد يسقط، تلازمني منذ فترة طويلة، مذ شاهدتُ جنريك فيلم "رجل مجنون"، حيث نرى هذا الرجل الذي لا يتوقّف عن السقوط… في فيلمي، لا نفعل سوى صعود السلالم ونزولها، أو النظر من الأسفل إلى الأعلى والعكس، أو محاولة فهم كيف حصلت حادثة السقوط. لذلك، كان ينبغي دخول الفيلم من طرفه: تتدحرج طابة فيلتقطها الكلب ثم ينظر إلى ساندرا، كأنما يقول لنا: هذه هي السيدة التي سنحاول فهمها طوال ساعتين ونصف الساعة".
3 – "المساواة في الزواج طوباوية غير ممكنة"
"ماذا نعطي بعضنا بعضاً في اطار الحياة الزوجية؟ ماذا يدين أحدنا للآخر؟ هل الأخذ والرد ممكنان؟ هذه أسئلة تشغلني ولم تقاربها السينما كثيراً.
في الفيلم، ساندرا فويتر كاتبة معروفة، وزوجها بروفسور ويدرّس ابنه في المنزل محاولاً الكتابة بدوره. هناك بالطبع تفكيك للنموذج الزوجي السائد. هناك تبدّل أدوار، كوني أقدّم امرأة تخلق اختلالاً في التوازن المنزلي، في الوقت الذي تحاول فيه الحفاظ على حريتها وإرادتها. المساواة داخل الزواج طوباوية رائعة، لكن من الصعب جداً الحصول عليها، وساندرا تقرر ان تأخذ من دون ان تطلب الاذن، فهي تعلم أنها لن تحصل على شيء اذا ما أخذت. هذا السلوك ينطوي على قوة ويطرح تساؤلات في الحين نفسه، والفيلم لا يفعل سوى هذا: طرح تساؤلات.
الزواج هو عبارة عن سعي لبناء ديموقراطية، لكن نوبات ديكتاتورية تطيح هذا السعي على الدوام. في الفيلم، يأخد الموضوع طابعاً شبه حربي، مع شيء من الخصومة. لقد سقط الزوجان في فخ، وثمة شيء فُقِد، لأن لا أحد منهما قرر التنازل أو الخضوع للآخر. كلاهما مثاليان كبيران، وأحبّهما لهذا الجانب في شخصيتهما. لم يستسلما. حتى في مشاهد الخلاف، التي هي في الواقع تفاوض، يستمران في قول الحقيقة، أحدهما في وجه الآخر. لذلك، فالحب مستمر بينهما في نظري".
4 – "فيلم فرنسي جداً عثرتُ فيه على متعة شكلية"
"أرتور أراري كتب السيناريو معي فعلاً. كان عملاً تشاركياً كاملاً. استشرنا محامياً جنائياً اسمه فنسان كورسل لابروس وكنّا نتواصل معه باستمرار لنلقى مساعدة في الجوانب التقنية، خصوصاً في ما يتعلّق بالمفهوم الفرنسي للحضور في المحكمة. الجانب الفوضوي للمحاكمة في فرنسا فاجأنا، خلافاً للمحاكمة في الولايات المتحدة حيث الكلام موزَّع على نحو أكثر صرامة. هذا الجانب أتاح لي ان أنجز فيلماً فرنسياً جداً، على نقيض فيلم المحاكمة الأميركي الذي يكون عادةً أكثر استعراضيةً. فكرة مشاهدة أجزاء متواصلة من الاستماع إلى الحضور فرضت نفسها. لم أتوقّف عن الطلب من المونتير، لوران سينيشال، الذي عمل معي، ان يبطّئ الإيقاع ويستخدم لقطات ليست بالضرورة الأفضل بصرياً. لم أرغب بفيلم مريح، يكون غاية في النظافة. في أي حال، عثرتُ على متعة شكلية جديدة مع هذا الفيلم".
5 – "ساندرا هولر طبعت الفيلم كيميائياً"
“بعد فيلمي السابق "سيبيل"، كنت أرغبُ في العمل معها. كتبتُ الدور لها. كانت تعلم ذلك. هذه من الأشياء التي شجّعتني منذ البداية لإنجاز الفيلم. هذه المرأة الحرة التي في النهاية، ستُحاكَم على النحو الذي تعيش فيه حياتها الجنسية، وتعيش مهنتها وأمومتها. فكَّرتُ بأن ساندرا هولر ستضفي على الفيلم تعقيدات معينة وستعطي الشخصية "نجاسة" ما. كنت أكيدة أنها ستُبعد عن الفيلم مفهوم "الرسالة". التقينا فعلاً خلال التصوير. جاءت بإيمان وبحقيقة ارتقى بها السيناريو. ساندرا شخص ترفض أي جملة حوار تبدو لها مصطنعة. كانت ترميها في وجهي. كان هذا شيئاً في منتهى الحيوية: تأتيني بوجهة نظرها الصلبة، كلّ شيء يمر بجسدها. تطبع الفيلم كيميائياً، كما تفعل قلّة من الممثّلين. عندما انتهى التصوير، شعرتُ انها وهبتني جزءاً منها. شعرتُ ان ما التقطته بالكاميرا لا يمكن اعادة انتاجه".
6 – "الحياة الزوجية لشخصين لا يتحدّثان اللغة نفسها"
"اللعب باللغات، الفرنسية والإنكليزية والألمانية، وكونه يضفي طبقة تعقيد اضافية على المحاكمة، يغذّي مسافتنا من ساندرا، هي الغريبة التي تُحاكَم في فرنسا، وعليها ان تمتثل للغة زوجها وابنها. انها امرأة بَنَت نفسها على طبقات عدة، والمحاكمة ستستكشف هذا الأمر. كان يهمّني ان أنظر إلى الحياة الزوجية بين شخصين لا يتحدّثان اللغة نفسها".
7 – "أحببتُ سامويل تييس ونعومته الظاهرة"
"قابلتُ الكثير من الممثّلين للدور الذي يلعبه سامويل تييس، ومن سخرية القدر ان الشخصية كانت تُدعى سامويل. يظهر في الفيلم قليلاً، لكنه ضروري للحكاية. كان عليه ان يخطفنا فوراً. أعترف بأنني أجده جميلاً جداً، أعشق صوته، نعومته الظاهرة التي تخفي شيئاً أكثر دسامةً. رغبتُ في تصويره. لديه شيءٌ دسم، وهذا شيء أعشقه عند الممثّلين. انه شيء جسدي وداخلي. ثمة طبقات".
8 – "أنطوان يجعل الميت شخصاً محبوباً"
"اخترت أنطوان رينارتز للحداثة التي جاء بها إلى الشخصية. أدخَلَ العالم المعاصر، وهذا يكسر جدية المحاكمة. هو يضطلع بدور الشرير، لكنه شرير ساحر جداً. يتحدّث بالنيابة عن الشخص الميت، ويجعل هذا الأخير الذي لا نراه، محبوباً. يحاول اقناعنا واقناع المحكّمين بأنه يستحق ان ندافع عنه. يحوّل أنطوان المحكمة إلى ساحة".
9 – "في المحاكمة تغيب الحقيقة ويحضر الكلام"
"غياب الاستعادة الزمنية كان رغبة منذ البداية. لا أحبّها في الأفلام. وددتُ ان يتصدّر الكلام الفيلم، فيتحمّل المسؤولية ويجتاح كلّ شيء. هكذا تعمل المحاكمة: تفلت الحقيقة منّا، فنجد أنفسنا أمام فراغ كبير ولا يعود لدينا سوى الكلام لسده. المحكمة هي المكان حيث حكاياتنا لا تعود ملكنا، يحكم عليها آخرون، وعليهم اعادة تركيبها انطلاقاً من عناصر منفصلة وملتبسة. هذا كله يعطي طابعاً خيالياً لقصصنا، وهذا ما يثيرني تحديداً".