النهار

البندقية 80 - "القصر" لبولانسكي: الثري الطريف هو الثري الميت!
هوفيك حبشيان
المصدر: "النهار"
البندقية 80 - "القصر" لبولانسكي: الثري الطريف هو الثري الميت!
جون غليز بدور الثري في "القصر".
A+   A-
جلسنا، ناقدان وأنا، إلى طاولة أحد المقاهي في جزيرة الليدو، نهنئ بعضنا بعضا على اعجابنا الشديد بفيلم رومان بولانسكي، "القصر"، الذي عُرض خارج المسابقة في مهرجان البندقية السينمائي (30 آب - 9 أيلول) ونال أحط الشتائم وأشرس أنواع الهجوم من الصحافة والنقّاد. بدت التهنئة، والحال هذه، في محلّها، كوننا من النادرين جداً الذين أبهرهم هذا العمل الساخر والمثير للجدال. مَن أحب هذا الفيلم، أو على الأقل مَن اعترف بحبّه له، عددهم ليس أكثر من أصابع اليد الواحدة. هناك شبه اجماع بأنه عمل منحط وسافل وركيك وبغيض وقبيح، ويكفي ادراج كلمة "القصر" مع اسم مخرجه في محرك بحث "غوغل" كي تطالع ما أبدعته أيادي النقّاد من أوصاف لواحد من أكثر الأفلام التي أضحكتنا وسلّتنا هذا العام في "الموسترا".

مازحتُ الزميل، ليس من دون بعض الجدية، بأن الفيلم سيبصح Cult بعد عشرين عاماً حداً أقصى، ففوجئتُ بأنه يؤمن، ليس من دون بعض السخرية، بأن الفيلم أصبح "كولتاً" منذ الآن. في النهاية، اتفقنا ان بولانسكي، أعد نسخة "تراش" لـ"مثلّث الحزن" لروبن أوستلوند الذي نال "سعفة" كانّ العام الماضي.

لم يخفِ مدير المهرجان الفنّي ألبرتو باربيرا، في أول تصريح له من هذا النوع أدلى به لمجلة "سكرين دايلي"، امتعاضه من النحو الذي تم الحديث فيه عن هذا الفيلم والتعاطي معه، قائلاً بأنه يحق لأي شخص ان يعبّر عن رأيه بحرية، لكنه وجد انه كان هناك قلّة احترام لواحد من أعظم معلّمي السينما. وأضاف: "من غير الجائز التعامل مع الفيلم بهذه الطريقة المتسرعة".

أعزائي القراء، في حال لم تفهموا حتى الآن عمّا يتحدّث باربيرا، فالأجدر مصارحتكم بكلّ بساطة: فيلم بولانسكي، 90 عاماً، واحد من آخر عمالقة السينما، مخرج "تشايناتاون" و"عازف البيانو" وتحف سينمائية أخرى، نُعت بـ"الخراء" تحت أقلام بعض الصحافيين، وهذا لا يحدث كلّ يوم، أقله لا يحدث مع سينمائي من طرازه.

اكتشفنا "القصر" يوم الجمعة الماضي، في صالة مكتظة بأهل الصحافة، لكن ما إن خرج النقّاد منها، وحان الوقت المسموح به للحديث عن الفيلم في الصحف المطبوعة والمواقع الإلكترونية، حتى كالوا الشتائم له، مستخدمين تعابير سوقية في بعض الأحيان. وطبعاً، معظم المقالات استعاد حكاية الاغتصاب، رغم ان لا علاقة لها بالفيلم. أجمعت الصحافة السينمائية على تفاهة فيلم المخرج الذي وقف خلف الكاميرا وهو في التسعين من العمر، ليقدّم عملاً يتحامل على الجميع أو يشتم الجميع أو يسخر من الجميع (اعتبرها ما تشاء)، بدون أي اعتبار لشيء، محوّلاً الشخصيات إلى دمى في يد كاتب السيناريو (يرجي سكوليموفسكي) الذي لم يجد، على ما يبدو، أي داع لبناء حبكة وبلورة الشخصيات والوصول معها إلى ذروة درامية، الخ. لكن، شخصياً، أعجبني الفيلم كثيراً، وما وجده الآخرون عيوباً وجدته ميزات.

يبدو ان بولانسكي ما عاد يطيق كبت هذه الرغبة لديه، أقصد الرغبة في الهجوم على الأثرياء وعالمهم السطحي المتصنّع، فما ان قرر عدم الخوف من المجتمع بعد الآن، حتى قرر تقديمهم كشلّة أغبياء سوقيين بشعين، فكانت هذه الكوميديا السوداء التي تحرص على تمريغ الجميع في الوحل بشكل متساوٍ، من دون أي إحساس بالرحمة، بل بشيء من التشفّي المحبب، ذلك ان صاحب الحفل في النهاية هو بولانسكي.

من أوليغارشيين روس إلى أصحاب مال لا تحرقه النيران، مروراً بنصّابين وأطبّاء تجميل وممثّلي بورنو، "يحبس" الفيلم كلّ هؤلاء في فندق سويسري فخم في جبال الألب، عشية دخول العالم إلى العام 2000، مع ما يعني ذلك من شائعات انتشرت عامذاك تتنبأ بنهاية العالم.

"أنوفهم وآذانهم ستمرغ في الشمبانيا والكافيار"، يتوعد مدير الفندق الذي يركض يميناً ويسراً طوال الفيلم ليلبّي طلبات الجميع. أحد هؤلاء الأثرياء، وهو من أصحاب المليارات، لا يصبح ظريفاً إلا عندما يموت (وهو يمارس الجنس)، وكأن بولانسكي أراد القول ان الثري الجيد هو الثري الميت.

لا، لسنا في "الوليمة الكبرى" لفيريري، فصنف الدعابة هنا ينتمي إلى زمن آخر، حيث الضحك هو فعلاً على الشخصيات وحماقتها التي يدركها الجميع الا أصحابها. وهذا ما أزعج أصحاب الضمائر الحية والأخلاق الحميدة في البندقية، وكأن الشخصيات الكارتونية التي يصوّرها الفيلم ببدائية، حقيقية.

هناك عالمان يتواجهان في "القصر": الفندق وأقبيته حيث يتم تحضير الطعام وتنظيف الشراشف التي سيضع عليها الأثرياء مؤخراتهم، وغيرها من الأعمال التي تجبر العمّال على البقاء في دوامهم حتى ليلة رأس السنة لخدمة هؤلاء، من دون ان يحظوا حتى بترف التذمّر من تصرفاتهم المهينة. ينتقل الفيلم باستمرار من هذا العالم إلى ذاك، مولّداً المفارقات وكاشفاً الهوة بين الطبقات. يفعل موظفو الفندق المستحيل لإنجاح السهرة، التي سيعترضها عدد من المشاكل والأحداث الطارئة، أما الحفلة نفسها فهي حفلة تفاهة.

لعل أكثر المَشاهد تعبيراً عن هذا، هو ذاك الذي يُختتم به الفيلم، اذ يعطي الكلمة الأخيرة لبولانسكي مثلما تعود الكلمة الأخيرة للمال في علاقة موظّفي الفندق بالنزلاء.

اقرأ في النهار Premium