النهار

ميشال سيمان لن يشاهد فيلماً هذا المساء
هوفيك حبشيان
المصدر: "النهار"
ميشال سيمان لن يشاهد فيلماً هذا المساء
ميشال سيمان (1938 - 2023).
A+   A-
رحل أجملنا. أبرعنا. أنبلنا. 
أكثرنا فهماً، أشدنا حضوراً، أعظمنا نشاطاً. 
رحل كبيرنا ميشال سيمان، الناقد والصحافي والمؤرخ ومكتشف المواهب وصانع الذائقة، طاوياً 85 عاماً أمضى أكثر من ثلثيها في خدمة الفنّ السابع مخاطباً أجيالاً عدة من المشاهدين. عاش من هذا الفنّ وله. 
 
بعد ظهر الاثنين الماضي، كانت لحظة الغياب الجسدي لثروة معرفية فكرية. موسوعة تمشي على قدمين. كنز لا تعود فائدته إلى بلده فرنسا وحدها، بل إلى السينما بمفهوم الوطن الذي تحدّث عنه غودار. 
 
قيل ان آخر جملة نطقها لممرضته وهو على فراش الموت في المستشفى: "هذا المساء، سأشاهد فيلماً". لم أكن حاضراً هناك، لكن لا أشك للحظة ان يكون تفكيره قد ذهب في اتجاه السينما وهو يطلق أنفاسه الأخيرة. 
 
كان لا بدّ من أن تمرّ أيام كي أتصالح مع رحيل أحد أعمدة النقد في العالم. هذا الذي قال عنه تارانتينو ذات يوم: "ما دام ميشال سيمان حيّاً فالسينما بخير". 
 
صانع ذائقة من الدرجة الأولى.
 
لم أعرف ماذا أقول في اللحظة الأولى. ربط الحزن لساني وشلّ تفكيري. كي لا أشعر بالوحدة، قرأتُ كلّ ما كُتِب عنه، في وسائل التواصل ومواقع الصحف، من غرب الكرة الأرضية إلى شرقها. الأسى نفسه لفّ الجميع. الامتنان ذاته. ثمة اجماع على أهمية الرجل عند كلّ الأجيال. حتى أعداؤه الإيديولوجيون ألقوا تحية على "أفضل خصم" لهم. انهالت تحيات من كلّ حدب وصوب. موته ترك في الفم طعماً بـ"نهاية مرحلة"، لكن، يا للغرابة، لقد فعل أيضاً ما فاجأني: أكّد أهمية النقد السينمائي ومدى تأثيره عندما يكون مَن يمارسه فهيماً وموهوباً وصادقاً. كنّا اعتقدنا ان الرثاء على صفحات الجرائد وعلى مواقع التواصل الاجتماعي محصورٌ في النجوم. غيابه أكّد لنا العكس. من موته، ولد النقد من جديد. 
 
شغف لا ينضب
 
تتزاحم الأفكار في رأسي عند التفكير في ميشال سيمان. من أين أبدأ في الحديث عن الرجل والناقد وصاحب الشغف الذي لا ينضب والفضولي والباحث عن كلّ ما هو مستجد ومثير في عالم الشاشة. لم أكن مجرد قارئ له، عرفته واحتككتُ به إلى حدّ ما، وهذا يعطيني بعض الأفضلية للحديث عنه. كان سيمان بمنزلة أب ومعلّم تنويري ومثال أعلى لي ولكثر من الذين تعمّقوا في السينما على يده، كتابةً في المجلات وحضوراً في المهرجانات وصوتاً عبر برنامجيه الاذاعيين الشهيرين، "القناع والريش" (منذ السبعينات) و"عرض خاص" (منذ التسعينات).
 
في الفترة الأخيرة من حياته، صارع الوهن الذي أضعفه وجعل حركته بطيئة. في مهرجان كانّ ما قبل الأخير، رأيته يمشي كالطفل، بخطى مترددة لكن خطى واثقة من انها ستحمله دائماً وأبداً إلى الصالات المظلمة التي كانت له نوراً، وذلك بمساندة زوجته إيفلين المثابرة، وهذا كله كي لا يغيب عن الحدث السينمائي الأكبر، ويبقى يمارس الهواية التي أحبّها وشغلته لستّة عقود: النقد السينمائي. 
 
وحيداً ضد الكلّ
 
جيل دولوز والسينماتيك الفرنسية جعلاه يهتم بالسينما. لم يتعب من المعرفة ولم يملّ منها، جامعاً على الدوام بين المشاهدة والقراءة وارتياد المسرح وزيارة المتاحف. طاقة ما بعدها طاقة. عقل جدالي يحلّق بحرية، معاصر وتقليدي في الآن نفسه، لا نكاد نعثر على مثيل له، لا يتوانى عن مواجهة الرياح المعاكسة وحيداً، وهذا في ميزان النقد السينمائي يعني الانتصار للسينمائيين الذين آمن بأعمالهم، حتى لو كان في بعض الأحيان وحيداً في الدفاع عنهم. لطالما ناضل لتأكيد آرائه بالحجج والبراهين الجمالية والدلالات الفنية. أسرار نجاحه أربعة: الثقافة المتشعّبة، النزاهة، الفضول الدائم، الانفتاح. رفض الاذعان لمنطق الصيحات والموضة التي تحوِّل الفنّ إلى شيء يثير الاهتمام ثم يمضي، كما انه نبذ الزج بالنقد في الدوغمائية، معتبراً ان الفنّ شيء معقَّد، متعدد الشكل، لا يمكن حصره في إطار جمالي وفهم إيديولوجي واحد. وكم كان محقّاً في ذلك. 
 
كثر طرحوا أنفسهم نقّاداً، وكثر بدأوا نقّاداً بالفعل قبل ان تجرفهم الرياح. سيمان بدأ ناقداً ومات ناقداً، وبين البدايات والنهايات، كان ناقداً على طول الخط. لم يتوقّف عن ان يكونه ولو للحظة. صنع العديد من العداوات من حوله، لا سيما مع مَن كان يسمّيهم بـ"مثلّث برمودا" ("دفاتر السينما" و"ليبيراسيون" و"انروكوبتيبل" و"تيليراما") الذي كان له في المرصاد منتقداً الشللية فيه. لكن كانت عداوته نبيلة بكلّ معنى الكلمة، يرغم الخصم على "أن يرفع من مستوى حججه" كما يقول الناقد تييري جوس، الذي تولّى رئاسة تحرير "دفاتر السينما" في مطلع التسعينات. الخلاف معه لطالما اكتسى صبغة فكرية وسجالية ولم ينزلق إلى الضرب تحت الحزام، اذ كان يرد على الحجّة بالحجّة، من خلال افتتاحياته وحلقاته الاذاعية، وكان من القلائل الذين ينتقدون النقّاد ولا يكتفون بنقد الأفلام. 
 
خلال درس سينمائي مع فرنتشيسكو روزي في السينماتيك الفرنسية.
 
يجب القول ان المعايير كانت مختلفة إلى حد كبير بين “الدفاتر” و”بوزيتيف”. الأولى دافعت عن سينما المؤلف التي تميل إلى نقل الواقع، فيما انتصرت الثانية للخيال والفانتازيا، لكن في النهاية، كلمة حق تُقال، تكمّلان بعضهما البعض. صراعهما كصراع لوميير وميلييس. في هذا الصدد، صرّح سيمان في مقابلة بأن قبول عالم الخيال من قبل المُشاهد أصعب من قبول الواقع، ذاكراً مثال “سارقو الدراجات” لفيتوريو ديه سيكا و”أين منزل صديقي؟” لعباس كيارستمي مقابل “هيروشيما حبّي” لألان رينه. أما الدخول في عقل الفنّان فهذا يحتاج إلى جهد أكبر. الواقع أمامنا، تكفي القدرة على التقاطه في حين ان الخيال داخل كلّ شخص. وفي نظره سينمائيون كفيلليني وكوبريك وبونويل وبولانسكي وتاركوفسكي هوجموا في البداية، قبل ان يُرد الاعتبار إلى فنّهم.
 
في شقّته الباريسية
 
ميشال سيمان أول شخص وددتُ لقاءه والتحدّث معه عندما حططتُ في فرنسا في العام 2005. تعرفتُ إلى هذا الاسم بدايةً يوم أهدت اليَّ صديقة نسخة من كتابه "كوبريك" في أواسط التسعينات، ثم عبر متابعتي لمقالاته في مجلّة "بوزيتيف"، التي اكتشفتها في تلك المرحلة أيضاً. هذا كله قبل ان أراه مجسَّداً أمامي في هيئة رجل من لحم ودم يوم زرته في باريس. كان رجلاً فارع الطول، خجول الابتسامة، حركاته مدروسة ويترك أثراً طيباً عند مَن يلتقيه. استقبلني في مسكنه الواقع قرب مترو "غران بولفار"، غير البعيد من احدى أجمل سينمات باريس وهي "ماكس ليندر". 
 
تفاصيل تلك الشقّة أثارت دهشتي. من الأرضية إلى الأثاث، وصولاً إلى العدد الهائل من الكتب التي كان يعيش بينها، بعضها تكدّس أكواماً على الأرض في انتظار ان تلمسها يداه الناعمتان اللتان لم تفعلا شيئاً في الحياة سوى الكتابة. لم أقل له كم تعلّمتُ منه. لم يبدُ لي من النوع الذي ينتظر منك إطراء. عند انتهاء اللقاء، أهدى إليَّ "كتاب لوزي" عن المخرج الأميركي جوزف لوزي الذي عانى من المكارثية، وكان وضع عنه مؤلفاً ضخماً يروي فيه سيرته من الألف إلى الياء. ولعله الناقد الوحيد في العالم الذي ألّف كتاباً عن ضحية المكارثية (لوزي) بعدما كان وضع مؤلفاً عن أحد الذين وقفوا في صفّها (إيليا كازان) مخصصاً له "كازان من خلال كازان"، كتاب حوارات يتناول سيرته. وهذا إن دل على شيء فعلى ان عند سيمان لا شيء يسمو فوق الجماليات، ولم يحاكم الفنانين لسلوكهم بل لإنتاجهم. 
 
مجموعة من أهم مؤلفاته عن السينما.
 
سيمان كان مقرباً من هذين المخرجين، كما كان مقرباً من ستانلي كوبريك وجون بورمان وفرنتشيسكو روزي وجاين كامبيون وثيو أنغلوبولوس وأندره كونتشالوفسكي وغيرهم، وكلّ هؤلاء خصص لهم مؤلفات أصبحت مرجعيات مع مرور الزمن. 
 
صاحب دهشة
 
في السنوات اللاحقة، اعتدتُ ان ألتقيه باستمرار في المهرجانات، نتبادل الآراء في الأفلام في حدود ما يتيح له وقته. اقترب منه لفتح حديث عندما أراه على شيء من الهدوء، وأتظاهر أنني لم أره عندما يبدو لي على عجلة من أمره.  وكان الكلام في عينيه دائماً عندما يخرج من فيلم مع رغبة في الحديث عنه. لطالما شعرتُ بمتعة الاستماع إلى شخص في مثل عمره لا يزال يشعر بالدهشة رغم كلّ ما سبق ان شاهده في حياته. في زمن حيث كثرٌ من النقّاد لا يملكون ربع تجربته وذوقاً لا يرتقي إلى ذوقه، نقّاد تبدّدت عندهم الدهشة ويمارسون الكتابة كوظيفة، كان هو يمدّك بإحساس ان كلّ فيلم قضية في ذاتها، سواء أحبّه أو كرهه. 
 
لفتتني دائماً فيه كيفية دخوله في الموضوع مباشرةً بعد القاء التحية، متجاهلاً البونجور أحياناً، ليسأل اذا شاهدتُ الفيلم الفلاني، قبل ان يعبّر عن اعجابه بعينين تفضحان انبهاراً وحماسة أطفال. لسنوات، شاهدته يركض من مكان إلى آخر، غير مكترث بالعمر والتجربة المديدة. كوني آتياً من ثقافة ينتهي فيها عمر الإنسان المهني باكراً، كان سلوك سيمان ونشاطه يتسببّان لي بدهشة دائمة.
 
اهداء نسخة من “كتاب لوزي” لكاتب هذه السطور.
 
كان دخول سيمان إلى صالة "ديبوسي" في مهرجان كانّ فيه دائماً هيبة، أقله لي، حضوره يعني ان العرض يمكن ان يبدأ. وكما قال بيان ادارة المهرجان بعد رحيله، لن تكون الأشياء بعد رحيله مثلما كانت قبله. 
 
جائزة لرينه قبل رحيله
 
في احدى المرات، لمحته على رصيف الـ"كراوزيت"، ووددتُ ان اسلّم عليه، فتفاجأتُ انه دفشني ليشق طريقه إلى موعد لاجراء مقابلة كان تأخر عليه. شعرتُ بالاستياء ولم أفهم هذا التصرف، الا بعدما بدأتُ أتصرف على هذا النحو مع الآخرين في زحمة كانّ والمواعيد المتضاربة. وشاءت المصادفة ان أكون عضواً في لجنة تحكيم "فيبريسي" في مهرجان برلين (2014) كان هو رئيسها. يومها، أراد اسناد الجائزة الكبرى الى ألان رينه عن فيلمه "أن نحبّ، نسكر ونغنّي"، مصراً عليها بطريقة غريبة. لم أرد مخالفته، رغم أني كنت أحببتُ الفيلم كما أحببتُ أفلاماً أخرى كان يمكن اسناد الجائزة إليها. تركته يحقّق رغبته. وجدتُ في خطوته اصراراً على تكريم مخرج على شفير الموت، ثم ان رينه كان من الأسماء التي لطالما دافع عنها بشراسة في "بوزيتيف". 
 
بعد أيام قليلة توفي رينه، وكم أشعر بالفخر اليوم بأنني شاركتُ، ولو جزئياً، في تسليمه آخر الجوائز التي نالها. بعض الأشياء لا نفهمها الا بعد مرور الزمن. 
 
عندما عاد من الولايات المتحدة في صيف 1959، بعدما تسكّع فيها طولاً وعرضاً وعاش في ربوعها حياة بوهيمية، اكتشف سيمان "هيروشيما، حبّي" لألان رينيه، وكانت الصدمة الكبرى. حتى بعد نصف قرن على إنجازه، كان يعتبره عملاً ثورياً على أكثر من مستوى: المونتاج الموازي، مزيج الوثائقي والروائي، التلاعب بالزمن، اللقاء المتناغم بين الأدب والصورة. وكان شعر بهذا أيضاً عندما شاهد "سالفاتور جوليانو" لفرنتشيسكو روزي و"الخادم" لجوزف لوزي و"رحلة الممثّلين” لثيو أنغلوبولوس و"نقطة فارغة" لجون بورمان. ثم كان الاكتشاف الأعظم الذي غيّر حياته: "2001: أوديسّة الفضاء". والكتب التي ألّفها جاءت نتيجة هذه الصدمات الانفعالية. ما كان يعجبه في فيلم كوبريك انه نال اعجاب الفلاسفة والمزارعين وعمّال المناجم والمراهقين والعجزة، وقد أجمعت كلّ الطبقات الاجتماعية وكلّ الأعمار على فيلم بهذا القدر من التجريب والغرابة.   
 
أورسون ولز مهّد له الطريق                                          
 
هذا الذي جاء من السينيفيلية الفرنسية العريقة التي تغذّت من السينما الأميركية ومن "الموجة الفرنسية الجديدة" ومن الأسماء التي صنعت مجد الشاشة الأوروبية، بدأ مستكتباً في مجلة "بوزيتيف" الرائدة في فنّ التحليل السينمائي، قبل ان يتعاون مع مطبوعات أخرى استمر فيها طوال حياته. لم يكن يعلم يوم أرسل مقالاً له عن "المحاكمة" (1963) لأورسون ولز إلى إدارة "بوزيتيف" وهو في الخامسة والعشرين، بأن اسمه سيرتبط فيها إلى الأبد، حد انه أصبح مديرها لسنوات. في هذه المجلة، نشر شهراً بعد شهر، وطوال ستّة عقود، عدداً لا يُحصى من الافتتاحيات والمقابلات والملفات التي تقدّم قراءة نقدية تنم عن رؤية عميقة ومتشعّبة للفنّ السابع؛ رؤية تتقاطع مع الفنون الأخرى، لا سيما الأدب والفنّ التشكيلي (كان خبيراً في عصر النهضة والسوريالية)، وهما الفنّان اللذان كان سيمان ضليعاً فيهما، ممّا جعله أحد أباطرة النقد في العالم، ومن هؤلاء الذين يعتبرون ان السينما استعارت من كلّ الفنون، ولا يمكن بالتالي قراءة الأفلام بمعزل عنها.
 
اسمه على ملصق “تقرير الأقلية” لستيفن سبيلبرغ.
 
"بوزيتيف" شغله الشاغل
 
كانت "بوزيتيف" شغله الشاغل، وضعها على خريطة المجلات في العالم، مجلة جدية احتفلنا هذا العام بعيدها الـ70، وظلّت مبيعاتها في ارتفاع متواصل حتى عندما بدأت الصحافة تعاني من مزاحمة الانترنت في السنوات الأخيرة. في لقائي معه، عرّفها بهذه الكلمات: "هذه المجلّة تأثرت جداً بالحركة السوريالية. نشأت في ليون وكان مصيرها ان تتبلور خارج السرب الباريسي. المكان الذي خرجَت منه كان له وقع كبير عليها. والنا نظروا اليها بشيء من الغرابة، لأنه تعذّر عليهم تصنيفها. لذا، كانت في منأى من الـ"سنوبية" الباريسية. بدءاً من العدد 10 أو 12، تغلغلت السوريالية في شرايينها، وانضم إلى فريقها أسماء مثل أدو كيرو وروبير بينايون، ولاحقاً جيرار لوغران، ثم كلّ الذين كانوا من الحركة السوريالية. جميع هؤلاء أعطوا السوريالية مكاناً في "بوزيتيف"، هذه السوريالية التي كانت في الأصل حركة استطاعت ردم الهوة بين ما يُسمَّى الفنّ الراقي وفنّ السُذَّج. في "بوزيتيف" تولّينا المهمّات التي تولاها السورياليون في مجال الفنّ التشكيلي: كانوا يحبّون "فانتوماس" والرواية الغوطية الإنكليزية وروايات الرعب".
 
مع المخرجة جاين كامبيون التي أحبّها كثيراً.
 
بفضل "بوزيتيف" ذاع صيت سيمان في العالم أجمع، رغم انه كتب بالفرنسية المحدودة الانتشار قياساً بالإنكليزية، وتعود شهرته إلى انه كان دائماً يلتقط المواهب الفتية ويراهن عليها مواكباً تطورها عبر الزمن. تابع كبار الأسماء منذ بداياتها: سكورسيزي، ماليك، كامبيون، تارانتينو، وغيرهم كثر. أما أنغلوبولوس وجيلان، فله يعود الفضل في إخراجهما من حدود بلادهما. حدسه القوي، جعله يلتقط الفيلم الذي سيبقى، وينتصر له. كتب السينما بالحبر مثلما كتبها المخرجون بالضوء والظلّ. 
 
فنّ إجراء المقابلات السينمائية
 
مقابلاته مع كبار الفنّ السابع تُدرَّس، وهذه وحدها تحتاح إلى ملف. أسئلة بسيطة، لمّاحة، فيها بُعد نظر، قادرة دائماً على استنباط الأفضل من لاوعي المخرج. سواء تلك التي نشرها في مجلته أو في كتبه العديدة، هي كنوز لا تُقدَّر بثمن، وهي نافذة مطلة على مصنع الفيلم على ألسنة صنّاعه، حيث التفاصيل الكثيرة وأسرار الكواليس وتأويلات المحاور، تحملنا إلى آفاق جديدة. حتى خلفية المخرج قد تساهم في فهم أفضل وفي بناء خطوط متوازية مع العمل. أتقن سيمان فنّ إجراء المقابلات السينمائية، اطلاعه المتواصل وثقافته الواسعة جعلاه معلّماً في هذا المجال، وكان السينمائيون يعشقون ان يسلّموا أنفسهم له. 
 
عن هذا الجانب من عمله، روى لي: "حين باشرتُ إجراء حوارات طويلة مع ريتشارد بروكس أو جون هيوستن أو روبرت ألدريتش، كان هؤلاء قد حازوا دعم المجلة. هيوستن أحبّ المجلة كثيراً، وكذلك أنتونيوني وبونويل. لم يكن الأميركيون يقرأونها، أو يقرأون فقط الأعداد الخاصة بهم. بونويل كان يعتبرها "مجلّته". و"بوزيتيف" كانت أول مجلّة تدعمه، خلافاً لــ"دفاتر السينما"، باستثناء بازان الذي كان كاثوليكياً يسارياً وأكثر انفتاحاً. استفدتُ كثيراً من "بطاقة التعريف" هذه (...). والسبب الآخر هو أنني أجري مقابلات جيدة: أتعامل بجدية كبيرة مع مرحلة الاعداد، وقد أمضي أحياناً ثلاثة أيام بحثاً عن وثائق ومعلومات تساعدني على طرح الأسئلة التي تكشف للسينمائي الذي أحاوره أنني أعرف سينماه جيداً. إلى اليوم، لم ينسَ سكورسيزي المقابلة التي أجريتها ومايكل هنري ويلسون (ناقد أميركي) معه في بداياته، حين لم يكن أحد يرغب في محاورته. لم يكن مكرساً بعد، فشاهدنا فيلمه "شوارع وضيعة" وأمضينا معه ست ساعات. الوفاء والاخلاص يضطلعان بدور أساسي في الثقة التي تنشأ بينك وبين السينمائي. لا أتكلم عن الوفاء الأعمى، إنما عن مبدأ الدفاع عن مخرجين يجتازون مراحل ينجزون فيها أفلاماً جيدة، لكن أحداً لا يهتم بهم لأسباب لها علاقة بالتيارات أو بالـ"سنوبية"، وهم يعرفون ان ثمّة مجلات سينمائية تهتم بهم. مثلاً، لا أعتقد ان وودي آلن لم ينجز سوى الأفلام الرديئة خلال السنوات الـ15 الأخيرة. ذات يوم، بعد رحيله، حين سننظّم استعادة مخصصة له، سنندهش بحس الابتكار والتنوع الذي تتسم به سينماه. والرجل يعلم التزامنا هذا الخط، لذلك عندما يمر في باريس، يعطينا من وقته أكثر ممّا يعطي غيرنا".
 
آلو، ستانلي؟
 
لسيمان 18 كتاباً مرجعياً عن السينما، بيد ان أحدها تحوّل اسطورة وحمل اسم "كوبريك"، وهو كما يبدو بوضوح من العنوان، عن المخرج الأميركي ستانلي كوبريك (1928 - 1999) الذي نادراً ما كان يمنح حوارات للصحافة، وذلك من ايمانه العميق بأن أفلامه تحمل كلّ ما يود قوله. الا ان سيمان اخترق جدار الصمت، ليغدو من القلائل الذين فتح لهم كوبريك دفتر أسراره. حاوره سيمان عن معظم أفلامه، ونُشرت الحوارات في كتاب مرجعي أصبح أيقونة كتب السينما على غرار "هيتشكوك/تروفو". صدر الكتاب في العام 1980، غداة عرض "شاينينغ"، وكان عدد المطبوعات عن كوبريك آنذاك محدوداً، اذ لم يكن قد أضحى بعد مادة دسمة للتحليلات الغرائبية والقراءات السوريالية، كما هي الحال اليوم. 
 
متحدّثاً في لقاء.
 
ظلّ سيمان مقرباً من كوبريك لبقية حياته، وكان الأخير يتواصل معه ليتزود منه بعض المعلومات، آخذاً نصائحه في الاعتبار. أخبرني أنه كان يتصل به بين وقت وآخر ليسأله عن الأفلام التي شاهدها، وحتى انه يستشيره في مسائل متعلّقة بالأزياء، حين قرر تصوير فيلمه عن الهولوكوست، قبل ان يتخلّى عن الفكرة.
 
لا يمكن ان أنسى المقال الذي كتبه سيمان عند موت كوبريك في احدى المجلات، هذا بالاضافة إلى عدد خاص من "بوزيتيف" صدر عنه، فاحتل اسمه مكان اسم المجلة للمرة الأولى في تاريخها. هناك كتابات سيمان عن السينمائيين، وهناك كتاباته عن كوبريك، وهي تترك القارئ في نشوة عارمة. 
 
أما كيف أصبح الناطق باسم كوبريك، فرواها لي في هذه السطور: "كنتُ قد نشرتُ مقالاً نقدياً شاملاً عن "2001: أوديسّا الفضاء"، وعن التيمات التي كان يعالجها (أظن انهم كانوا يترجمون له المقالات). ثم، عندما اقترحت عليه مجلة "إكسبرس" إجراء مقابلة معه، طلب اليها ارسال أسماء صحافيين محتملين، فاختارني من بين ثلاثة أسماء، وهكذا أجريتُ معه حواري الأول في العام 1971، وكان عن "البرتقالة الآلية". أما بالنسبة إلى المقابلة معه عن "باري ليندون"، فلم يحاور أحداً غيري عنه. لا تسلني لماذا أُتيحت لي هذه الفرصة، لكن أتذكّر أنني شاهدتُ "باري ليندون" برفقة كلود سوتيه في لندن داخل صالة شبه فارغة، وذلك بعد تعرضه لهجوم قاس من الصحافة الأنغلوساكسونية، ولم ينل أي استحسان من الجمهور. بعدما أدهشنا الفيلم، ذهبنا لرؤية كوبريك وقلنا له: "فيلمك تحفة خالصة ونعتقد انه سيحقق نجاحاً جماهيرياً ساحقاً في فرنسا". اجتذب الفيلم في فرنسا نحو مليون مشاهد، علماً ان كوبريك حين حاولنا اقناعه بهذا النجاج المحتمل، اعتبر اننا نوجه إليه الاطراء لتخفيف جحم الاساءة المعنوية التي تعرض لها من الصحافة. اعتقد ان الفنانين يتذكّرون دوماً دعمك لهم في أوقاتهم الصعبة. ان السينمائيين يعرفون جيداً مستوى العمل الذي أنجزوه، وقد يضحكون في سرهم عندما تمدح عملاً لا يعتبرونه مهماً، وقد يبكون دماً حين تكتب عن أحد أفلامهم البارزة انه لا يساوي شيئاً".  
 
أميركا، قصّة حبّ                                             
 
تجاوزت شهرة سيمان الوسط المهني الضيق. عندما عُرض "تقرير الأقلية" لستيفن سبيلبرغ، قرر الأميركيون وضع اسمه على الملصق الاعلاني تكريماً له: "أفضل فيلم لسبيلبرغ، توقيع: ميشال سيمان". بينه وبين السينما الأميركية حكاية غرام. كأستاذ محاضر ومدرّس للحضارة الأميركية في جامعة باريس 7، أحب سيمان الولايات المتحدة والذين تناولوها نقداً وتحليلاً في أفلامهم، فبات أحد أهم خبراء هذه السينما على غرار صديقه برتران تافرنييه، وأعاد الاعتبار إلى بعض السينمائيين الأميركيين الذين كانوا منبوذين في بلادهم لأسباب سياسية وإيديولوجية، وفي مقدّمهم جوزف لوزي. 
 
كلاسيكي غير منغلق على الجديد
 
في لقائي به، كان لا بد ان أسأله عمّا يشغلني في هاتيك الفترة: هل مشاهدة الأفلام وإبداء الرأي فيها، مهنة حقيقية؟ فكان ردّه: "النقد نشاط مهم بالنسبة إلى السينما، وقد يتحوّل فنّاً تحت ظروف معينة، لكن أقل أهمية من الفنون الأخرى. هذه المهنة تقتضي التزاماً على الدوام، لذا، لا نستطيع ان نمارس مهنة أخرى حين نكون نقّاداً. أما لماذا نحتاج إلى رأي الناقد، حين في امكاننا أخذ رأي المواطن العادي؟ فالجواب ان الأخير لديه مهنة أخرى، وهذه المهنة تمنعه من المواظبة. الفرق بينه وبين الناقد، هو ان الأخير يهتم بالسينما نحو عشر ساعات في اليوم، ثم يضعها في تصرف القراء. على الناقد ان يظهر أيضاً قدرة معينة على التحليل والاجتهاد، لكن يجب الاّ يخضع هذا التحليل لمعايير يتكرر استخدامها على نحو منتظم".
 
ناقد يستوفي كلّ شروط الناقد البارع.
 
حاولتُ اعطاء فكرة عن اسلوب سيمان، لكن أحد تلامذه الذي أصبح بدوره ناقداً مهماً، فيليب روايه، لخصّه ببراعة: "مقالاته واضحة، تضيف إلى المعلومة صوابية التحليل وأناقة الاسلوب التي تتخللها طرافة من شأنها جذب القارئ. كان سيمان يعتبر النقد نوعاً أدبياً". 
 
أعطى الفيلم الأول اهتماماً يتساوى مع اهتمامه بإنتاج هوليوودي ضخم، ولا فرق بين فيلم يأتي من آخر بقعة على وجه الأرض وآخر صُوِّر تحت منزله. الأهم، الجودة الفنية التي يقاربها بذوقه الكلاسيكي غير المنغلق على الجديد. على الناقد الناجح، بحسب سيمان، ان يمتلك: الاسلوب، القدرة على التحليل والكتابة، الحماسة، الفضول، التقييم الجمالي، القدرة على مد القارئ بالمعلومات. والأهم الحديث عن الأفلام بلغة بصرية.
 
في مقابلة مع "تيليراما"، يقول سيمان الذي عايش العصر الذهبي للنقد السينمائي، ان ما يُكتب اليوم من نقد يفتقر إلى الجدال. في مراحل تاريخ الفنّ، نجد نقّاداً ينتقدون نقّاداً آخرين، أما اليوم فهناك نوع من "تهذيب" يسود الوسط النقدي. يذكر سيمان حكاية ناقد وصف جورجيو فازاري بـ"الحمار" في القرن السادس عشر، وهو ما لا يمكن تخيله في زمننا الراهن. حتى في الستينات، لم يكن تروفو مساوماً مع زملائه النقّاد وقد نعتهم بأحط النعوت. مهما “تهذّبت” الأشياء في زمننا الدعائي الصرف، فالسينما تظل في نظره فنّ خلق النقاشات والجدال، يجتمع حوله الكلّ، لا فقط مديرو المتاحف والنقّاد.  
 
مع الممثّلة ماريزا برنسون، بطلة “باري ليندون”.
 
سيمان (يعني "اسمنت" بالفرنسية)، الذي أضحى اسمه مادة للعب الكلامي من جانب بعض الزملاء، لا أحد من هؤلاء كان يعلم ان الاسم هذا اذا ما كُتب بالأحرف العربية، ومع تعديل بسيط، يصبح مرادفاً لـ"سينما". بين سيمان وسينما حكاية ترتيب أحرف لا أكثر.
 
محطة أخيرة في شارع أول فيلم 
 
في الثامن عشر من تشرين الأول الماضي، شهد مهرجان لوميير تحية له. بعيداً من التحيات السطحية التي انتشرت في السنوات الأخيرة، خطر لمدير المهرجان تييري فريمو الجلوس إلى طاولة، في شارع أول فيلم، وقراءة بعض من أهم مقالاته، خصوصاً تلك التي تتناول هجرة الأوروبيين إلى هوليوود، مع عزف على البيانو لبعض من ألحان أفلامه الهوليوودية المفضّلة. هكذا رحل سيمان، الشاهد الأهم على آخر 70 سنة من تاريخ الشاشة، مُحاطا بحب يكفي لصون ذاكرته والحفاظ على إرثه. 
 

اقرأ في النهار Premium