برلين-"النهار"
بعد انتهاء الحجر الصحّي، كان عالم السينما يتوقّع تسونامياً من الأفلام التي تتناول تلك الفترة من حياتنا التي جلسنا خلالها نتأمّل أنفسنا من دون ان نفهم الكثير عمّا يحل بنا وبالعالم الذي حولنا. لكن الأفلام جاءت قليلة ومحدودة التأثير، لذلك ما يقدّمه المخرج الفرنسي أوليفييه أساياس في جديده، "خارج الزمن"، المتسابق على "الدبّ الذهبي" في مهرجان برلين السينمائي الرابع والسبعين (15-25 الجاري)، قد يكون واحدا من أهم أفلام تلك الحقبة التي بقدر ما هي قريبة تبدو أيضاً بعيدة، اذ ان بعض الممارسات التي كانت ضرورية آنذاك تثير الضحك والسخرية اليوم.
اذاً، بعد مجموعة أفلام فيها الجيد والأقل جودةً، جعلته أحد أبرز السينمائيين في فرنسا، حاول أساياس تناول حياته الشخصية، من مدخل الجائحة والثقب الذي أحدثته للتفكير في ماضينا وحاضرنا وأيضاً في مستقبلنا، على ضوء المتغيرات التكنولوجية التي لاحت في الأفق وطرحت حلولاً بديلة للتعامل مع القيم، من بينها العمل.
عودة إلى الكتب.
"خارج الزمن" أرض اختبار، ليس كلّ ما فيه ناجحا وإستثنائيا بالضرورة، لكنه "وورك إن بروغريس"، وليد حاجة، واللافت انه على صلة بفيلم أساياس السابق، "حياة مزدوجة" حيث كان لأساياس آراء في التحولات التي طرأت على عالم النشر وهي تنعكس على القراء. يمكن اعتبار فيلمه هذا تتمة له، كونه عن الثورة الرقمية، لكن في زمن مضطرب أكثر، حيث شقيقان (فنسان ماكاين وميشا لسكو) وحبيبتاهما (نورا حمزاوي ومود وايلر) عليهما التعايش مع بعض لفترة، بسبب الظروف القاهرة، مع ما يترتب على ذلك من خلافات بسيطة ومشاكسات يومية، بعضها ذو صلة بهواجس البيئة التي ينتمي اليها المخرج، كون الفيلم ليس مستوحى ممّا عاشه فحسب أثناء الجائحة، بل صُوِّر أيضاً في بيت والديه، وهذا يعني ان هناك اقحاماً لخصوصية معينة، وأشياء عالقة يصفّي أساياس حسابه معها على نحو ممتاز، بعد عثوره على هذا التوازن الجميل بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي.
وما أدراكم ما هو العائلي والشخصي، عندما يمتزجان بسيرة الجدة والأم والخلفية الثقافية والذكريات والأشباح، ويمتزج هذا كله مرة أخرى بتجربة مخرج عاش وعيه بالثقافة والفنّ في زمن معين في باريس، أضف إلى كلّ ما سبق تلك الحاجة إلى الكلام والبوح عند وصول الإنسان إلى عتبة السبعين من العمر. النتيجة: عمل هادئ يأخذ من الطبيعة في زمن الأزمة وإيجاد الحلول البديلة، مسرحاً لتسكّعات بول (ماكاين في أداء باهر وهو ألتر إيغو المخرج)، حيناً للاجتماع بمعالجته النفسية بعيداً من الأعين، وحيناً لتبادل قبلة شاعرية مع حبيبته.
حجر تحت سماء الريف الفرنسي.
يقول أساياس في الفيلم بأنه شعر بالحنين إلى هذه الفترة القصيرة من حياته بعد انتهائها، وهذا هو الشعور الذي تملّكني أيضاً بعد عبور الجائحة. هناك فعل مشترك يلتقطه الفيلم بحساسية معينة، انه هذا العالم المملوء بالكتب والأفلام واستحضار الماضي والنميمة والخوف على الرحيل من دون ترك أي شيء. ما يصنع جلسات المثقّفين في المقاهي خلال الأيام الطبيعية، يحضره أساياس إلى قريته في ربيع مضطرب، تحت سماء الريف الفرنسي الزاخر بذكريات الطفولة. أنجز أساياس هذا الفيلم وهو يعلم انه محظوظ كونه عاش هذه الحالة التي ربما لن تتكرر مرة ثانية في حياته. وما يبدو ميزة عنده، قد يشكّل عقبة أمام المُشاهد، لأن التجارب الكوفيدية كانت مختلفة بعضها عن بعض، أي انها محلية وعابرة للقارات في آن واحد، ومن كان محشوراً في بيت من غرفة ومطبخ، على الأرجح سيجد ان ما عاشه أهل الريف هؤلاء، فيما أكبر مشكلة عندهم صوت التلفاز العالي ليلاً، ترف لا يستحق ان يُروى، لأنه تجربة لا تعبّر عمّا عاشته الأكثرية. هناك، في المقابل، من سيقدّر الفيلم للسبب نفسه.