بعد "أتلنتيك"، الفائز بالجائزة الكبرى في كانّ 2019، تعود المخرجة الفرنسية ماتي ديوب إلى السينما، مع "داهوميه"، هذه المرة من بوابة مهرجان برلين السينمائي (15-25 الجاري) ومسابقته، للحديث عن موضوع ذي أهمية قصوى، اقله بالنسبة اليها ذات الأصول الافريقية: نقل التحف والقطع الأثرية التي كان استولى عليها الاستعمار (الفرنسي في هذه الحالة) ووضعها في متاحفه وعرضها على السيّاح لعقود طويلة.
تفتح المخرجة الأربعينية هذا الملف الشائك، من خلال قضية اعادة 26 تحفة اثرية تعود ملكيتها إلى مملكة داهوميه الافريقية السابقة، المنطقة التي تقع اليوم في جنوب جمهورية بينين. في تشرين الثاني من العام 2021، تكفلت فرنسا اعادة تلك الأعمال إلى منبعها، وذلك بعد سن قانون صدر في عهد ماكرون يجيز ذلك. أحدث نقل التحف بهجة شعبية ورسمية تصوّرها ديوب في هذا الفيلم الوثائقي، الخفيف النظيف، من دون ان تتوسّع في الموضوع كثيراً، الذي يدور على نقطة محددة جداً. فمن خلالها، يمكن تخيّل العلاقة الاشكالية بين أوروبا وأفريقيا، ولكن الفيلم لا يرى أي لزوم لخوضها، بل يتركها رهناً للاجتهاد. كل ما تقوم به ديوب هو الطرق على الباب، لعل الرد يأتي من خلفه.
(استرداد أفريقيا لتراثها).
لكن الفيلم لا يكتفي بهذه الواقعة، بل ربما المسألة الأهم لا كيف يُعاد التراث الأفريقي إلى أصحابه، بل كيف يتم تلقّيه من الجانب المُرسل اليه. سجال طويل ومثمر سيخوضه طلاب احدى الجامعات في بينين، انطلاقاً من هذه القضية. وكأي سجال، هناك مؤيد ومعارض ومن يقف في المنتصف. انه سجال صحي بلا شك، يعكس التحولات التي تطرأ على العالم الحالي، محدثةً قطيعة مع فكرة المهيمِن والمهيمَن عليه، تساهم في تقريب افريقيا من تاريخها. نرى شباباً يواجهون أسئلة جديدة لم يواجهوها من قبل.
تختار ديوب معالجة راديكالية. نتابع على أثرها رحلة التمثال من متحف كيه برانلي في باريس إلى القصر الرئاسي في كوتونو، ونرى ذلك من وجهة نظره (التمثال)، منذ لحظة وضعه في صندوق حتى وصوله إلى وطنه الجديد/القديم، مروراً بصعوده في الطائرة. يتكفّل التمثال نقل قصّته بنفسه من خلال تعليق صوتي يبقى صداه في الرأس. هذا يمد الفيلم أيضاً بصوت وكأنه يأتي من أعماق التاريخ ويربط الحاضر بالماضي. يحمل الصوت في داخله صرخة أفريقيا، حيث يموت الهاربون منها في البحر. وفي حين تحدث الهجرة من الجنوب إلى الشمال، يهاجر التمثال في الاتجاه المعاكس للمنطق.
(ثاني فيلم لديوب بعد "أتلانتيك").
تقول ديوب ان موضوع الرد أو الاعادة يسري في عملها، مذ بدأت بتصوير أفلام وثائقية في داكار بين 2009 و2019. تقول في الملف الصحافي: "من خلال تكريس فيلمي الروائي الطويل الأول للشباب السنغاليين الذين لقوا حتفهم في البحر أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا، كان الهدف الأساسي هو ترك أثر للمأساة المعاصرة من خلال محاولة تقديم التعقيدات المرتبطة بتلك المأساة بكامل أبعادها الشخصية والوجودية. استعادة التحف المنهوبة خلال فترة الاستعمار الفرنسي، تخص أولاً شباب أفريقيا نفسها، الذين لم تُسمع أصواتهم في هذا الخصوص، بل تم اختطافهم من الأوساط السياسية وعزلهم في المجال الأكاديمي المحض. وكان لا بد من توثيق القضية برمتها من القمة إلى القاعدة، لخلق مساحة قد تسمح للشباب بتحديد هذا الاسترداد كجزء من تاريخها. هذا كله لخلق مساحة حيث يُمكن سماعهم".