النهار

كارلو شاتريان يروي تجربته في الـ"برليناله": السينما ليست دعاية سياسية
هوفيك حبشيان
المصدر: "النهار"
كارلو شاتريان يروي تجربته في الـ"برليناله": السينما ليست دعاية سياسية
كارلو شاتريان على رأس مهرجان برلين لخمس دورات.
A+   A-
إديبسوس (اليونان) - هوفيك حبشيان

بين 2020 و2024، خمس دورات من مهرجان برلين السينمائي أُقيمت تحت إدارة كارلو شاتريان الذي شغل منصب المدير الفنّي. من بينها دورتان، واحدة أُقيمت "أونلاين" والثانية نُظِّمت في ظروف وقائية وحضور محدود. هذا كله قبل ان تعصف بالمهرجان تداعيات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي تم تدويله مجدداً بعد السابع من تشرين الأول الماضي، فأغرقت الـ"برليناله" في مستنقع التجاذبات السياسية. فيما يرى البعض ان هذه التجاذبات أثّرت سلباً في الحدث الذي يجب ان يكون سينمائياً في الدرجة الأولى، يعتبرها شاتريان نقاشاً حيوياً لا بد منه في أي مجتمع، شرط ألا يصل إلى حائط مسدود. هذا الناقد والسينيفيلي الإيطالي (53 عاماً) الذي سبق ان أدار مهرجان لوكارنو وتنحّى بعد الدورة البرلينالية الأخيرة لتحّل مكانه الأميركية تريشا تتل، عانى العديد من التحدّيات والضغوط، يروي تفاصيلها في هذه المقابلة الحصرية التي أجرتها "النهار" معه خلال حضوره الدورة الثالثة من "مشروع إيفيا السينمائي" في اليونان.

* ما تقييمك لسنواتك الخمس على رأس مهرجان برلين؟
- في الواقع، كانت ست سنوات لخمس دورات. أعتبرها تجربة غنية جداً على المستويين الشخصي والمهني. تعلّمتُ الكثير. جئتُ من مهرجان ذي سمعة طيبة (لوكارنو)، لكن حجمه أصغر مقارنةً ببرلين، ومختلف على مستوى الهيكلية المؤسساتية. كنت أعلم ذلك قبل تسلّمي الإدارة الفنية. المقاربة إزاء السينما هي أيضاً مختلفة. في لوكارنو، كنت أكثر استقلاليةً، بمعنى ان المكتب - بالطبع هناك مكاتب في لوكارنو - كان مبعثراً، لذلك كنّا نعمل بالمزيد من الاستقلالية، في حين ان عملية الاختيار والعمل تكون متزامنة في برلين. من ناحية النتائج، لقد واجهنا جائحة أثّرت بالطبع في مهرجان يعتمد بشكل أساسي على الجمهور. لكن الأفلام التي قدّمناها خلال هذه الدورات الخمس هي في رأيي مرآة جيدة لمَا يحدث في عالم السينما. لقد ساعدنا صنّاع الأفلام في ان تُكتَشف أعمالهم. أما لجان التحكيم فميّزت أفلاماً حظيت بمسيرة جيدة. لذا، من ناحية الاختيار، تقييمي إيجابي. لكن الحكم النهائي ليس لي.
 
كريستين ستيورات، رئيسة لجنة تحكيم دورة عام 2023.
 
 
* هل تعتقد انه كان هناك فرق كبير بين المهرجان تحت إدارة ديتر كوسليك (المدير الفني السابق) وإدارتك؟
- لا أعرف بصراحة. أعتقد نعم. إننا شخصان مختلفان ولدينا مقاربتان مختلفتان تجاه السينما. لكن، لا يعود إليّ تقييم ذلك. لطالما قلتُ إنني لا أنظر إلى الأمور من منظور القطيعة. للمهرجانات تاريخ أبعد بكثير من مديريها، حتى لو بقي ديتر لفترة طويلة. لذلك، كنت أنظر إلى تاريخ المهرجان، باعتباره مكتشفاً لأفلام مهمة. غودار كان فاز بجائزة في برلين في نهاية الخمسينات وبداية الستينات. لا أعلم إذا ما كنّا اكتشفنا غوداراً جديداً، لكن أول مثل يخطر في بالي: رادو جود الذي أُعطي "الدبّ الذهب" في الدورة التي أُقيمت أونلاين.

* هل مثّلت الجائحة تحدّياً لكم؟
- بلا شك، لقد غيّرت الكثير. عملنا تقريباً بالكامل عن بُعد. ما تأثّر بشكل أساسي، هو ما يتعلق بالجمهور. في دورة 2021، حضرت أفلام لبعض النجوم لكن غاب النجوم. فقدنا هذا الجزء المهم في أي مهرجان. من ناحية الاختيار، تلك الدورة شهدت أيضاً فوز رادو جود وعرض أفلام مهمة.

* هل تعتقد أن هناك ما قبل الجائحة وما بعدها بالنسبة للمهرجانات؟
- لا أعتقد ذلك. ولكن من المبكر التأكيد. الجائحة وضعت المهرجانات الصغيرة والمتوسطة في موقف صعب. المهرجانات الكبيرة لا تزال جذّابة. لاحظتُ ان الشركات لا تزال ترغب في المشاركة في برلين كما في كانّ وفينيسيا وساندانس. لكن الأمر أكثر تعقيداً للمهرجانات الصغيرة والمتوسطة. بالنسبة لبعض كبريات الشركات، المشاركة بفيلم في مهرجان تعني استثمار الكثير من المال، ويجب ان يكون هناك مردود.
 
شاتريان خلال تكريم ستيفن سبيلبرغ العام الماضي.
 
 
* في أي حال، رغم ما تردد عن موت السينما مع الجائحة، فإن ما حدث هو عكس ذلك: أظهرت الجائحة انه لا يمكن الاستغناء عن مشاركة تجربة المشاهدة مع الآخرين، خصوصاً مع فشل ما يُسمَّى "مهرجانات أونلاين".
- هذا صحيح. يمكن عرض الأفلام عبر الإنترنت، وهناك منصّات لذلك. لكن قوة المهرجانات تكمن في لمّ شمل الناس، أكانوا من المحترفين أم من الجمهور.

* قيل الكثير عن مهرجان برلين باعتباره مهرجاناً مسيساً. وكان هذا مصدر فخر القائمين عليه حتى وقت قريب…
- يجب ان نحدد أولاً معنى "المسيس". التسييس يعني أشياء عدة. المهرجان يُقام في مدينة مسيسة للغاية. برلين دائماً في الخط الأمامي في أي نقاش يحدث، سواء حول قضايا مجتمعية أو محض سياسية.

* لعله في هذا يختلف عن لوكارنو!
- بالتأكيد، ولكنه يختلف أيضاً عن كانّ وفينيسيا، لأنه يُقام في مدينة يعيش فيها الناس، وليس في مكان ينتقل إليه الناس لمشاهدة الأفلام. يشاهد أهل برلين الأفلام بينما يعيشون في المكان الذي يمارسون فيه تفاصيل حياتهم اليومية. بالطبع، سيكون التأثير أقوى والجمهور ليس بالضرورة من السينيفيليين. برلين مدينة سياسية بحكم تاريخها.

* والمهرجان ساهم أيضاً في توحيد الألمانيتين بطريقة ما.
- هذا جزء من تاريخ المهرجان وجزء من تاريخ المدينة. الأفلام ليست سياسية في ذاتها، ولكنها تكون كذلك عندما تشرك المشاهد في إتجاه أو في آخر، أو تطرح أسئلة من دون تقديم إجابات. برلين مهرجان سياسي أيضاً لأن الأفلام تثير نقاشات حامية، ومن الجيد ان نرى في مجتمع اليوم شباباً ملتزمين ينتصرون لأفكارهم.
 
شاتريان خلال تكريم مارتن سكورسيزي هذا العام.
 
 
* لكن، هل تستطيع ان تتجاهل حقيقة ان ثمّة أفلاماً اختيرت لأسباب سياسية أو بسبب خطابها السياسي؟
- أنا أقول لا، لكن كناقد، أنتَ مَن يجب ان يرد على هذا السؤال. حرصتُ على اختيار الأفلام لجودتها السينمائية وليس فقط لأنها تأتي بقضية مهمّة. إني مؤمن بأن السينما شكل من الأشكال الفنية وليست مجرد بروباغندا، حتى لو كانت دعاية لقضية نبيلة. لذلك، لم أختر أفلاماً دعائية، حتى لو كانت دعاية لصالح أوكراني مثلاً. في النهاية، مسألة التقييم تعود اليكم أنتم النقّاد.

* الدورة الأخيرة كانت اشكالية، اذ شهدت الكثير من الجدال والصراعات حتى داخل المهرجان، بين تيار مع إسرائيل وآخر مع فلسطين. خرجنا بانطباع بأن مسألة الشرق الأوسط ستُحل في برلين!
- لا أعتقد أنه كان هناك تيارات مختلفة بقدر ما كانت هناك مواقف مختلفة، وهو أمر طبيعي في أي مجتمع. المشكلة عندما يكون الحوار مستحيلاً بين أصحاب الموقفين. المهرجانات لا تأتي بحلول بل تفتح نقاشاً. ومن أجل هذا، يجب إتّخاذ مسافة ممّا يحدث، كي لا نقع في الدعاية السياسية. ماذا يمكننا ان نفعل أكثر من ذلك؟ في الدورة الأخيرة، اخترتُ فيلماً لمخرج إسرائيلي وفيلماً مشتركاً لمخرجين أحدهما إسرائيلي والثاني فلسطيني. كان هناك حضور عربي قوي خلافاً للعام السابق. أفلام ليست بالضرورة أفلاماً سياسية بالمعنى المباشر. تمنيتُ ان تساهم هذه الأفلام في فتح نقاشات، وهذا ما حدث في النهاية. لكن بعد اختتام المهرجان، أخذت الخطابات السياسية مكان الأفلام. والاعلام دعم هذا التوجّه.

* الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لا يشبه أي صراع آخر. هذه قضية معقّدة جداً. كيف تعامل المهرجان معها، خصوصاً في ظلّ الموقف الرسمي المنحاز إلى إسرائيل؟
- في وقت من الأوقات، فكّرنا في تنظيم طاولة مستديرة، لكنني كنت مقتنعاً بأن من المستحيل جمع إسرائيليين وفلسطينيين حول طاولة واحدة، لأن ذلك لن يوصلنا إلى أي مكان. مهرجان برلين من حيث تاريخه وهيكليته، مرتبط بالحكومة الألمانية، والحكومة تتبع خطاً معيناً، مركّزةً على سردية واحدة. قد نفهم هذا التوجّه اذا أخذنا في الاعتبار ماضي ألمانيا، لكن في ظروف مماثلة تصبح المسألة إشكالية، خصوصاً ان الحكومة ترى بعين واحدة. أحدث هذا الكثير من النقاشات. لكن ضميري مرتاح لأنني اخترتُ الأفلام بناءً على جودتها السينمائية وليس لأي موقف سياسي ينبع منها. في برلين، هناك أماكن أخرى لفعل ذلك. بعض الناس في الحكومة لم يكونوا راضين، وكذلك الناس الذين كانوا ضد الحكومة والذين أرادوا أن يتّخذ المهرجان موقفاً. رفضنا الدعاية. عندما يقول بعض الناس إن الأفلام ليست كافية، أقول لهؤلاء إنهم أخطأوا في العنوان! نحن هنا لعرض الأفلام، وليس لفرض أفكارنا السياسية.
 
* هل واجهتم ضغوطاً رسمية؟
- هناك دائماً ضغوط، وهذا العام كانت ضغوطاً من هذا النوع. لكنني أديتُ مهمّتي وحرصتُ على البقاء على مسافة من هذه الضغوط. عندما حدث ما حدث في السابع من تشرين الأول، كان من الواضح انها ستكون دورتي الأخيرة.

* في السنوات الخمس الماضية، دار الكثير من النقاشات حول الجنس والنوع، وشهدت تغييرات في ما يتعلّق بالأقليات العرقية والجنسية. كيف تمكّنتم من تحقيق توازن بين هذه التحديثات والسينما الخالصة التي يجب ان تحافظ على حريتها، خاصةً أنكم قادمون من خلفية سينيفيلية؟
- السينما دائماً ما تعكس حال المجتمع الذي نعيش فيه. والمجتمع اليوم شديد التوتّر. حتى قبل الهجمات، استولت أقليات على السينما، وعن حق، لفتح النقاش. لكن هذا هو جدول أعمالهم. جدولي هو اختيار أفلام تسمح بهذا النقاش، لكن يجب ان تنضوي في اطار الشكل الفنّي. على النقاش ان يحدث من خلال السينما. حتى وإن كنت أدرك أنه أمر حسّاس للغاية، فيجب ألا نخاف من اختيار الأفلام التي تستفز. أعتقد أن أحد أكبر الأخطار اليوم هو الخوف من إثارة الجدال. اختيار أفلام تتبع الرأي السائد أسهل بكثير. اختيار أفلام تقول إن بوتين شخص سيئ، على سبيل المثل، أسهل بكثير. لكن من المهم في أي مجتمع السماح بوجود مواقف مختلفة. ليس من خلال القول إن فلان سيئ أو جيد. على بعض الأفلام السير ضد التيار، ليظهر للمُشاهد شيء جديد. عندما أنجز بازوليني "سالو"، لم يكن يجب أن يُؤخذ الفيلم على المستوى الأول. تاريخ السينما مليء بهذه الحالات. لكن الأمر يصبح اليوم معقدا للغاية، خاصةً ما إن يتعلّق الأمر ببعض القضايا أو المواضيع. تُؤخذ السينما كواقع رغم انها ليست الواقع. السينما تأويل للواقع. وعندما يقول شخصية في فيلم "أنا أحب النساء العاريات"، هذا ليس رسالة المخرج بل مجرد شخصية في القصّة، ولا يعني ان الفيلم يروّج لكراهية النساء. الأمور اليوم أصبحت أكثر تعقيداً. أعتقد أنه من المهم، أقلّه لي، الحفاظ على البُعد الذي يبيّن ان السينما ليست الواقع، بل تساعد في فهم الواقع. وللفهم، يجب ان نظهر أحياناً الجانب الآخر الذي لا نرغب في رؤيته.

* حتى وإن تعرضنا لضغوط الصواب السياسي؟
- نعم، هذا نوع آخر من الاستبداد. عندما لا يمكننا خوض نقاش، فهذا يدل على أننا في بداية الطريق إلى الاستبداد، حتى لو حدث ذلك من أجل قضية نبيلة.

* لا يوجد فرق كبير بين الدافع الجيد والسيئ في هذه الحالة. أقصد عندما يُفرض علينا شيء ما…
- الصواب السياسي يبدأ بفكرة دعم الأقليات، وهذا مبدأ سياسي سليم. إني آتي من منطقة في إيطاليا يتحدّث سكّانها الفرنسية، ولدينا قوانين لدعم اللغة الفرنسية وصونها. ولكن إذا فرضتَ اللغة الفرنسية على الناس، فسيرفضونها. مهما كان المجال الذي نتحدّث عنه، سواء أكانت سينما أم غيرها، يجب حماية الأقليات، ولكن من دون ان يتحوّل ذلك إلى فرض.

* في رأيك، ما الخلل الأكبر الذي يواجهه برلين اليوم؟
- أفضّل الحديث عن الفرص بدلاً من الخلل. هناك مشاكل، لكن يجب تحويلها إلى فرص. فرص برلين تتجسّد في كونه مهرجاناً مختلفاً عن كانّ والبندقية. برلين هو مهرجان الجمهور. وهذه فرصة، وليست خللاً. عندما يشاهد الجمهور فيلماً ويقيَّم من قبله لا من قبل المهنيين فحسب، يصبح التأثير أقوى. هذا امتحان لما سيحقّقه في الصالات لاحقاً. النقّاد لا يمثّلون دائماً الذوق العام ولا حتى ذوق لجان التحكيم في بعض الأحيان. الأفلام التي تحقّق إيرادات في شبّاك التذاكر ليست بالضرورة أفلاماً سيئة، ومعظمها لم يُعرض في أكبر المهرجانات التي لا تقترح دائماً ما يرغبه الجمهور. في المقابل، ساد اعتقاد في السنوات الأخيرة، ان المهرجان الناجح هو الذي يعطي جوائز لأفلام تحقّق إيرادات في الشبّاك. إني أرى في ذلك شيئاً إيجابياً، لكن لا يمكن حصر دور المهرجانات في هذا. الهدف من المهرجان هو ان نُري ان أشكالاً سينمائية أخرى ممكنة.

* ولكن أليس عرض أكبر عدد من الأفلام الجيدة في المهرجان، الأمر الذي لم يكن متوافراً في برلين خلافاً لكانّ، أهم من جذب الجمهور؟ فعندما تقول ان الأهم هو ان يستمتع الجمهور بهذه الأفلام، هل تعني ان المهرجان يجب أن يلبّي ذوقه؟
- كما قلتُ، لدى برلين فرصة ان تلعب على حقيقة وجود جمهور ضخم. الجميع يعتبرني سينيفيلياً، وأنا أعلم أنني أقوم باختيار دقيق، ومع ذلك لم ينخفض عدد الجمهور. ما أعنيه هو أننا نستطيع تقديم اختيارات قوية ومبتكرة دون ان نفقد الجمهور، وهذه فرصة برلين. الفرصة أيضاً تكمن في عدم نسيان ان السينما أداة لفهم العالم، لا فقط لالتقاط الصور على السجّادة الحمراء. من المهم ان يكون لدينا الإثنان. عندما يُعرض فيلم في كانّ، لا يُعرض للجمهور. ولكن جزءاً كبيراً من هذه الأفلام سيصل إلى الجمهور لاحقاً. هذا لا يحدث تلقائياً، خلافاً لبرلين الذي يمتلك وظيفة فنية واجتماعية في الوقت نفسه. عندما أقوم باختيار الأفلام، لا أنظر فقط إلى جودتها، بل إلى أين نذهب مع التشكيلة كلها، التي فيها الجيد والأقل جودةً، لكن المجموع يعطيك فكرة شاملة.

* اذاً، أنتَ مدرك ان بعض الأفلام ليست على المستوى المطلوب.
- بالطبع، الأفلام ليست جميعها في المستوى عينه. عادة،ً أستخدم استعارة الألوان في الحديث عن عملية الاختيار. إذا كانت جميع الأفلام ذات لون واحد، فلن يكون هناك تأثير حتى لو كان لوناً جميلاً.

* كنقّاد، نتساءل أحياناً عن سبب ضمّ الفيلم الفلاني إلى هذا القسم بدلاً من ذاك. ماذا عنكم؟
- كلّ قسم هو شكل من أشكال السرد، ومن المهم ان يكون لدينا تنوّع في الأذواق والألوان. في المسابقة الرسمية، من الأفضل ان تكون الأفلام مختلفة جداً بعضها عن بعض، بدلاً من ان تكون متشابهة. ندرك انها ستحاكَم جنباً إلى جنب. لذلك، من الأفضل ان يكون هناك تنوّع على ان يكون هناك ثلاثة تنويعات لفيلم واحد. هذا أحد الأسباب لماذا نضع هذا الفيلم هنا لا هناك. توجد أيضاً أسباب أخرى، منها ما يتعلّق بنقاشات مع مالكي الحقوق، وهذا جزء من السجّادة الحمراء.

* دعنا نتحدّث قليلاً عن جوانب إيجابية. لقد كانت هناك تغييرات في لجان التحكيم في عهدك، مثل اختيار كريستين ستيوارت التي كانت أصغر رؤساء لجان التحكيم سنّاً في تاريخ المهرجان. ما الذي حثّك على هذا الاختيار؟
- رئيس لجنة التحكيم في برلين، على غرار كانّ وفينيسيا، ليس فقط الشخص الذي يتّخذ القرار النهائي في شأن الجوائز، بل هو أيضاً رمز. في السنة الأولى، اخترنا جيريمي أيرونز، وهو رئيس تقليدي، لكن منذ السنة الثانية بدأنا نفكّر في شخص آخر. فكان لدينا لجنة تحكيم غير عادية مكونة من ستّة أفراد من الفائزين بـ"الدبّ"، فبدت تجربة جديدة. في السنة التالية، اخترنا م. نايت شيامالان رئيساً للجنة التحكيم، علماً انه مخرج غير مرتبط عادةً بالمهرجانات. أردنا تسجيل موقف يتمثّل في القول ان مخرجاً ترك بصمة عند الجمهور والسينمائيين يستحق تبوؤ هذا المنصب. أما ستيوارت، فكنّا خرجنا للتو من الجائحة، وأردنا ان نأتي بصورة شابة ومتجدّدة. كنت التقيتُ بها وأعرف مدى التزامها سينما المؤلف. هذا العام، كان لدينا لوبيتا نيونغو، التي ليست على صلة بالسينما المستقلّة، لكنها شاركت في أفلام مهمّة مثل "12 سنة عبداً" لستيف ماكوين.

* لم أجد الخيار موفّقاً.
- كانت الفكرة مد جسور بين الأجيال وبين أجزاء مختلفة من عالم السينما، وبين ضفّة وأخرى. اليوم، نحن نعيش في مجتمعات حيث الجميع يقطن حديقته الصغيرة المحوطة بحواجز عازلة، وعلينا كسر هذه الحواجز. هذه هي الفكرة التي حاولنا تنفيذها مع رؤساء اللجان.

* هاتان المرأتان منحتا "الدبّ" لفيلمين وثائقيين، وكان ذلك مفاجئاً.
- نعم، كان ذلك مفاجئاً للغاية. في حالة كريستين، كانت مفاجأة جداً لأنني أعرف المخرج نيكولا فيليبير جيداً (أُعطي "الدبّ" عن "على قارب الأدامان"). كنت مسروراً بفيلمه في المسابقة، لكنني لم أتوقّع ان يفوز بالجائزة الكبرى. مع نيونغو، كانت الفرضية أقوى، لأن الفيلم الذي فاز ("داهوميه" لماتي ديوب) كان رؤيوياً، والأشخاص الذين ليسوا في مجال الوثائقي يمكنهم رؤية ميزاته، خاصةً انه يحمل بُعداً سياسياً قوياً، فحقّق توافقاً في الآراء.
 
شاتريان مع المديرة التنفيذية مارييت ريسنبيك في ختام برلين 2024.
 
 
* هل كنت تتمنّى فيلماً آخر لـ"الدبّ"؟
- لا، لا. بمجرد ان يكون الفيلم جزءاً من المسابقة، هذا يعني انه يستحق الفوز.

* ولكن، أتصوّر ان لديك تفضيلات.
- ليست تفضيلات شخصية بقدر تساؤل مفاده "إلى أين نذهب؟". "الدبّ الذهب" تبقى جائزة مهمة. فوز فيلمين وثائقيين لعامين متتاليين قد يجعل المهرجان يبدو كأنه مهرجان للأفلام الوثائقية، وهذا ليس صحيحاً. ولكن إذا كانت الأفلام قوية، وأعتقد ان الاثنين قويّان، فلا بأس بذلك.

* شيء إيجابي آخر أعجبني في الدورة الفائتة، هو منحكم جوائز شرفية لإثنين من "أيقوناتي" السينمائية: سبيلبرغ وسكورسيزي.
- كان هذا أسهل من أشياء أخرى، ليس بمعنى الحصول عليهما، بل على مستوى ارضاء الآخرين. هذا جزء من صناعة المهرجانات. إذا كان لدينا رؤساء لجان تحكيم من الشباب، فمن المهم في المقابل اضافة وزن تاريخي في الجوائز التي تُمنح على سبيل التكريم. لذلك، "استهدفنا" معلمين كباراً. كنّا سعداء بالحصول على سبيلبرغ. كان جدول أعماله مزدحماً للغاية. المهرجانات اليوم مشغولة بالحاضر، وأعتقد ان من المهم ألا ننسى ماضي السينما.

* هناك على الأقل مهرجانان يتمحوران على تاريخ السينما: لوميير في ليون وريتروفاتو في بولونيا.
- نعم، وهما ناجحان جداً.

* … يُقامان في بلدين سينمائيين كبيرين هما إيطاليا وفرنسا…
- … في ألمانيا، فهم السينما يختلف بعض الشيء. هناك تركيز أقل على السينيفيلية لمصلحة التيماتيكية.

* ما أكثر ما تفتخر به خلال هذه السنوات الست الماضية؟
- لقد حرصتُ على الحفاظ على حرية الأشخاص الذين عملتُ وإياهم، مثل مدير قسم "بانوراما" ومدير قسم "جيل". لم أفرض عليهما اختيار أفلام معينة، لكنني في الحين نفسه سعيد بأن البرنامج كان يمكن اعتباره متجانساً. وضعنا خطاً تحريرياً مع الحفاظ على هذه الحرية، وهذا كلام النقّاد وليس كلامي.

* ما هي خططك الآن؟
- الآن، أنا في إجازة هنا في إديبسوس (ضحك). سأستمر في العمل في مجال السينما، قد لا يكون في إطار مهرجان… ربما في أماكن أخرى.

* أو في أحد المهرجانات العربية، مثلاً…؟
- (ضحك) لم أتلقّ عروضاً إلى الآن، ولكن كلّ شيء ممكن. على المستوى الشخصي، عشتُ خمس سنوات في برلين، وكانت الأمور معقّدة في ظلّ الجائحة. كانت عائلتي في إيطاليا وأنا في برلين. تنقّلتُ ذهاباً وإياباً بين البلدين. الربيع في إيطاليا وباقي العام في برلين. حالياً، أود العمل في ظروف تتيح لي المزيد من الاستقرار.

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium