النهار

البندقية 81 - “لا أزال هنا”: نصف قرن من النضال على وجه أونيس
هوفيك حبشيان
المصدر: "النهار"
البندقية 81 - “لا أزال هنا”: نصف قرن من النضال على وجه أونيس
فرناندا توريس في دور أونيس.
A+   A-

بعد أربعة عقود على سقوط الديكتاتورية في البرازيل، يأتي المخرج والتر ساليس بفيلم مرجعي عنها، وعن فصل دموي من تاريخ بلاده، مختتماً غياباً عن الشاشات دام 12 عاماً. جديده هذا، "لا أزال هنا"، اكتشفناه ضمن عروض المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية السينمائي (دورة 81 - من 27  آب إلى 7 أيلول) التي تتضح معالمها كلّ يوم أكثر فأكثر.

 

 

الديكتاتورية العسكرية في البرازيل عاشت نحو عقدين، وخلّفت وراءها كوارث إنسانية. الجرح لم يلتئم عند كثيرين، خصوصاً الذين خسروا أباً وأخاً ورفيقاً وحبيباً. والخسارة أنواع، أسوأها ذلك الذي لم يُعرف فيه مصير الضحية، إذ قضى تحت التعذيب ولم يُعثر على جثّته، وبات في عداد الموتى الأحياء بالنسبة إلى العائلة. كيف يموت الإنسان نهائياً في غياب الجسد؟ وهل يمكن الحداد عليه؟

 

 

ينطلق الفيلم من هذه الواقعة، واقعة الآلاف الذين قضوا في أقبية النظام البغيض، وظلّ أهاليهم بلا أخبار عنهم لسنوات، قبل أن يُسلَّموا وثيقة وفاة تنهي القضية (عند دخول البلد في مرحلة الديموقراطية). إنّها واحدة من روايات الظلم التي عاشتها أميركا الجنوبية بين الخمسينات والثمانينات، ونُقِلت في العديد من الأفلام، لكن بمقاربات مختلفة.

 
 

(عائلة دمّرتها الديكتاتوريّة العسكريّة في البرازيل)

 

"لا أزال هنا" أفلمة لقصّة روبن بايفاس الحقيقية، اقتبسها ساليس من كتاب مذكّرات ابنه مارسيلو عن أمّه. هذا النائب اليساري السابق (سلتون ميللو) كان انسحب من الحياة السياسية ليهتمّ بشؤون أسرته. كانت حياته موزّعة بين زيارات متكرّرة لأصدقاء وارتياد السينما، عندما أُلقي القبض عليه واتُهِّم بمساعدة أعداء النظام. الافتتاحية لافتة: على أحد شواطئ "ريو دي جانيرو"، نشهد على تفاصيل الحياة العذبة. نلمس سعادة تكاد تكون مثالية، رغم أنّ الديكتاتورية قائمة في البرازيل منذ ستّ سنوات عند لحظة بدء الحكاية. نرى أطفالاً يلعبون بالطابة، مراهقون يدهنون أجسادهم بالكوكا كولا، إلخ... هذا آخر شيء جميل سنراه قبل الدخول في نفق القهر والعذابات. إلى الآن، كانت الأحداث مسموعة. بعد الآن، ستصبح "مُعاشة".

 

 

بعد دهم عناصر من الجيش باللباس المدني منزله لاقتياده إلى التحقيق، لم نسمع شيئاً عن بايفاس. يحدث هذا في نصف الساعة الأولى من الفيلم، أمّا الساعتان التاليتان فتنقلان معاناة زوجته أونيس (فرناندا توريس) للبحث عنه ومعرفة مصيره ومحاولة التدخّل لدى السلطات للإفراج عنه. لكن كلّ المحاولات ستفشل.

 

 

أونيس تريد الحقيقة، هي تودّ أن تعرف ماذا حلّ بزوجها، لكن لا أحد يملك الجواب. بعد اعتقال بايفاس، ستصبح الزوجة أماً وأباً لأولادها الخمسة، ومناضلة ومحامية، محتكرةً كلّ الأدوار والوظائف. فيها يختزل ساليس نضال نصف قرن، راسماً على وجهها المعبّر الجميل علامات تبدّل المواسم والأنظمة والأجيال، مع دائماً تلك الصلابة المقترنة بالهشاشة التي تميّز الكبار. والأهم إنّها لن تنكسر، لن تخسر ولو قليلاً من كرامتها، لن تتحوّل وحشاً وهي تحارب الوحوش. بل ستكون نموذجية في طريقة تعاملها مع المواقف التي ستتعرّض لها. أمّا الأسى فسيبقى. سنوات بعد نهاية الديكتاتورية، سيظلّ صدى تلك الحقبة يتردّد في وجدان هذه المرأة. في مشهد ختاميّ مؤلم، نرى شيئاً ما يتحرّك داخلها عندما تسمع اسم زوجها في نشرة الأخبار، رغم إصابتها بالـ"ألزهايمر". الغياب صعب، الغياب القسريّ أصعب.

 
 

(المخرح والتير ساليس في البندقيّة بعد عرض فيلمه)

 

كالعادة، في هذا النوع من الأفلام، الخاصّ والعامّ يتقاطعان، ما يجري داخل البيت وخارجه يصبحان واحداً. النظام الذي تعيش تحت رحمته، يوحّد الفضاءين، لا يمنح لك أيّ حرّية بأن تعيش بكامل "فردانيّتك"، وبالتالي لا تستطيع أن تفكّر وتتصرّف وفق ما ينسجم مع قناعاتك.

 

 

قبل الاعتقال وتدهور الأوضاع، كان البيت الأسريّ يشكّل في الفيلم "ضرورة جماليّة". فهو عشّ، خشبة مسرح، ملجأ، في آن معاً. رؤية المطبخ وحدها في خلفية الصورة، تحضّ على الراحة النفسية والطمأنينة. أينما يوجد طعام وماء، توجد حياة. أمّا بقية أجزاء البيت، فخلية نحل حيث يجتمع الكلّ لتبادل الآراء والأفكار. هذا كلّه قبل أن يعشّش في جدرانها الصمت والموت والجمود. كلّ حادثة تحتاج إلى مكان، وفي غياب جسد المعتقل/المقتول، يصبح بيته (الغائب عنه) مسرح الحادثة. إنّه الديكور الأوحد، الذي يحوّله المخرج (يقول إنّه مقرّب من العائلة منذ الصغر)، إلى كاراكتير في ذاته. وفي اليوم الذي ستعي فيه الزوجة أنّ زوجها لن يعود، أوّل ما ستتخلّى عنه هو البيت، ستذهب إلى غير رجعة قاصدةً مع أولادها "ساو باولو"، ذلك أنّها تعلم أنّ الرجل في كلّ غرفة وزاوية من هذا البيت، لكن لا قدرة لها على رؤيته.

 

 

انتظرنا عودة ساليس إلى السينما (فاز بـ"الدبّ الذهب" عن رائعته "محطّة برازيل" في العام 1998)، وتبيّن أنّنا لم ننتظره من أجل لا شيء. إنّه السينمائيّ الذي يستخدم سينماه أداة ضدّ النسيان. عمله ذو ثقل إنسانيّ، حسّاس، الموت فيه لا يمنع الحياة، يردّ الاعتبار إلى ضحايا حقبة ظالمة من تاريخ أمّة. هذا فيلم فيه قدر من الحزن، يحاول أن يعضّ على الجرح ويصبح بالتالي أكثر حزناً.

 

 

 

 

 

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium