صدر حديثاً عن "دار الينابيع" السورية كتابٌ ورقي من حوارات "بريد السماء الافتراضي" للشاعر أسعد الجبوري بمقدمة من الشاعر والمؤرخ العراقي خزعل الماجدي. الإصدار الجديد هو الجزء السادس من موسوعة "بريد السماء الافتراضي" بعد "شعراء نائمون في غرف الغيب"، منشورات وزارة الثقافة السورية 2019، "شعراء برائحة الكآبة والجنس والانتحار"، منشورات دار ميم، الجزائر، 2018، "شعراء خارج موسوعة العدم"، منشورات دار البلد، سوريا 2018، "شعراء ما بعد الورق"، منشورات الدار المغربية العربية، المملكة المغربية 2020، "شعراء بنسخ منقحة"، منشورات دار الأيهم القاهرة، 2020.
يتضمن الكتاب حوارات مع ابن الفارض، فرناندو بيسوا، نجيب سرور، تشارلز بوكوفسكي، أحمد بركات، والاس ستيفنز، تيسير سبول، اليزابيث بيشوب، أمجد ناصر، جورج شحادة، دنيس بروتوس، مارك ستراند، معين بسيسو، جوزيف برودسكي، جان جينيه، زينادا غيبيوس، محمد حسين هيثم، يفغيني يفتوشينكو، ممدوح عدوان، وأوجين غييفيك.
وجاء في المقدمة "يستبطن المؤلف شخصيات الماضي الأدبية والفكرية والفنية، ويحاول أن يقول معها شيئاً جديداُ مبتكراً، إنه فنّ تركيب أجنحة وألسنة جديدة لشخصيات نعرفها لكننا نندهش بها من جديد حين نقرأ بريدها السماوي المفترض. أسعد الجبوري يحاور نفسه، من خلال الآخرين، يستعملهم كعمود رياضة الزانة ليحلّق بآرائه من خلالهم. فهي إذن حواراته هو من خلال كرته السحرية التي لها آلاف الوجوه والعيون والأفواه .إنه كمن يقرأ نفسه من خلال عدساتهم. بل يغريهم بالبوح حين يخترع لهم مركبات سماوية وبخارية، ويدخل على طريق رحلاتهم وخلواتهم البعيدة. كانت سيرهم ونصوصهم معادة الإنتاج بطريقةٍ خاصة تليق ببريد سماءٍ لا حدود لها، وكان ذلك يعني سبر الهاوية التي كان يطلّ عليها هؤلاء. كان يسأل عن طفولتهم وأحزانهم وكان يصنع لهم مراكبَ وخيولاً ويمنحهم تذاكر سفر لما وراء الطبيعة، وبقدر ما كانت أسئلته لهم ذكيةً وعامرة بالفخاخ كان يخرج لنا بصور جديدة لم نألفها عنهم، وهذه هي اصالة الإبتكار في بريد السماء هذا" .
وفي المقدمة ايضا: "البقع التي أحدثها أسعد الجبوري في سيرة وأرواح هؤلاء العظام كانت ضرورة ريشة رسّام يصنع بورتريهات جديدة تخرج من زمنها وتعيد صياغتهم، وكان اكتشاف القارات الدفينة لهم والمجرات الباطنية أمراً لا بد منه، وكما أن الشعر لا يحتاج إلا الى الجنون كما يقول فرناندو بيسوا فإن أسعد يراه نافعاً في الحوار أيضاً، ولذلك فهو يشيع الجنون في محاوريه ويجعلهم يهذون بأمور لسنا متأكدين منها. كان الكثير من هؤلاء الذين حاورهم يجدون لذّة في البوح لأن شطآن عقولهم كانت تتآكل بسبب أمواج الجنون التي كانوا يعيشون تحت وطأة انفلاتها المفاجئ، لذا كان دور أسعد هو التقاط هذا الإنفلات وتدوينه على ورقٍ أو ضوء. لقد التقط عوالمهم الداخلية ببراعة ونسجه معهم واستطاع أن يتجول في جغرافيا هذه العوالم، ومن الطبيعي أن يلجأ إلى نصوصهم لوصف هذه التضاريس، وأن يمنتج هذه النصوص ويصنع منها قوارب سفرٍ أعمق في دواخلهم. لم تكن الأحوال السايكولوجية لهم سوى بابٍ لفهم رحلاتهم إلى المجهول وكان لا بد من العناية بهذه المفاتيح المهمة. لذلك كانت الكهوف المظلمة لهم نصف مضاءة وكان يمكن تلمس منحوتاتها أو التحديق في بريقها الآسر .
لعلّ أخطر ما في هذه الحوارات أنها سلطت الضوء على ذلك الصوت الداخلي النافر والمدبب لكلّ المبدعين، صوتهم الرافض لعصرهم ولمجتمعهم وللسلطة وعماء الوهم الذي اندرجوا فيه وللإهمال والقسوة حولهم. وجاء هذا بسبب طريقة المعالجة الأساسية التي كان يشتغل بها المحاور، فهو يؤكد هذه الثيمة ويُشبعها نقاشا .فهذه الحوارات تبحث في الجانب المخفي والمعتم والصاخب والجنونيّ في حياة المبدعين، وهي إذ تؤكد هذا الجانب فهي تنطلق من فرضية بسيطة عبّر عنها الحوار مع بوكوفسكي حين قال بأن القارئ "يريد البحثَ في تنكة زبالة الوجود، عسى أن يجدَ له تتمةً ضائعةً أو مختفيةً هناك".
وفي رأي الماجدي أن "هذه الحوارات تستدرج الشعراء الموتى إلى الحياة مرة أخرى وتسألهم عن عالمهم الذي هم فيه، فهي تذهب الى ناصيتهم البعيدة، تعيد إليهم الحيوية بكؤوس من النبيذ وتُسكرهم وتجعلهم يبوحون من جديد"، ذلك أن "ابتكار طرازٍ أدبيّ، في هذا الزمان، ليس بالأمر الهيّن، وبريد السماء الإفتراضيّ طرازٌ مميّز، ينتمي إجمالاً إلى فانتازيا الأدب، لكنه مربوط بجذور تصله بالعالم الواقعي، فالأسماء التي يسعى للحوار معها موجودة في الماضي القريب أو البعيد، ولهؤلاء آراء واضحة أو مضمرة في جوانب شتى من جوانب الحياة والثقافة. لكنها تأتي هذه المرة عبر سياط بريد البرق" .