النهار

"إفرح يا قلبي" لعلوية صبح: كرونولوجيا الوعاء العائلي
المصدر: "النهار"
"إفرح يا قلبي" لعلوية صبح: كرونولوجيا الوعاء العائلي
"إفرح يا قلبي" لعلوية صبح.
A+   A-
لا أريد أن أبحث عن الحقيقة. فهذا من درس الفلسفة. ولا شأن لي به ها هنا. كذلك لا أريد الإثبات الروائي. فهو ليس من غايات هذة المراجعة البسيطة. ولا أريد، فوق هذا وذاك، أن أمايز بين الشروط الفنية للعمل الفني، والصدقية التي يبغيها الكاتب/ة في أي عمل من أعماله. أو أن أمايز بين الخطأ والصواب، في تتبع أعمال الكتاب. غير أني سأكون أمام الباب المغلق، الذي يريد جميع النقاد والقراء والأدباء والشعراء، أن يدخلوا من كوة له، ليقفوا على العجائب. ذلك لأن العمل الروائي إنما هو أشبه بصندوقة العجائب حيث الحقائق والأساطير والعقائد والأخطاء والديانات والرغبات والشهوات والغرائز والدماء التي سالت على المذابح جميعها. ففي العمل الروائي، نكون مع المتخيل، لا المكرس والمقدس. إنه الطوف الحقيقي العظيم، المغامر بكل شيء، لأجل التعبير عن بينونة عن كينونة. إنه الطواف الروائي الراقي، بين أقنومين قديمين: الموت والحياة، لا الحياة والموت كمصائر الخلق. لأن الروائي، ينحو نحو المعاكسة والمخالفة يبحث في الترب، عن بذور الانبعاث. يبحث في الإنسان الوحش، عن إنسانية غامضة، بعيد دفنه في التراب.

مذهب علوية صبح في "إفرح يا قلبي" دار الآداب، إنما هو هذا المذهب. تبتعد عن السرديات القاتلة للعمل الروائي، لتجعله أجدر بالقراءة، أغنى، أرقى. لأن المتخيل فيه منفوح القداسوي، لا المقدس. وهي بذلك، تكسر الرتابة وتتمايز عن الروائيين الذين يرسمون الدروب مسبقا، ثم يمضون وقتهم في الزرع والغرس والتسوير والتصوير ورصف المداميك، التي كلما أعلوها، سرعان ما هدمتها الزلازل النفسية ورمتها في الأرض: "كان غسان يشعر دائما بأنه متروك للعراء داخل عائلته على الرغم من اهتمام أمه به. لم ير يوما للأشياء، إلا كما تخيلها، وكما تناسب توقه للعزف ووحدته وغضبه وعطشه للسكينة والتناغم مع العالم الذي يدور حوله. لا النور حسبه نورا فقط. ولا الظلمة ألف سوادها. كل تصوراته وتخيلاته يبدأ رسمها من طنينها في أذنيه... وكأن جسمه مصنوع للموسيقى وليس للإندماج في صراخ العائلة وخناقات الأخوة" (ص42 -43).

جموح مخيلة، وجنون أفكار، وبدء متعدد، لا بدء واحد. ومعاودة للبدايات، لدفنها، لبعثها. لا أدري. وإنما الذي يقوله عملها الروائي، بلا إعلانات مسبقة: إن مشروعها الروائي ها هنا: إنما هو تآخي التأكيد مع الإنكار وإن ما تراه أمامك اليوم، لم يكن إلا شبح الأمس. وإن الروائي، ليس أمامه إلا الحرية في الإنتقاء على الرغم من شعوره الدائم بخيانة الذوق، الذي هو عمود العمل الفني.
تحشد علوية صبح أدبا، بل عملا أدبيا للخيانات الخلاقة، حين تحترف الأفكار وتجوس أرض الحقائق وتحلق وراء المعتقدات بين الغابات والغيوم التي تظللها. تريد أن تنزع الحشمة وتظهر المكر وتسلط الضوء على النكران الجميل. ولو أنها تعيش في كل برهة، فداحة النقصان، في كل ما يتقدم منها، على أنه الكامل والحقيقي والملزم، وأيضا المقدس.

أحاول أن أدخل في عالم علوية صبح الأدبي الذي يفلسف البديهيات ويجعل منها قوانين، أن أسبر أغوارها الفكرية البسيطة، التي تنبسط مثل شاطئ لبحر، أن أجوس الرمل بقدمين عاريتين، وأن آخذ بيدي من الموجة التي تغزوني وأنا واقف كواثق: "مشى معها إلى باب بيتها وتغلب عليه شعور بأنه لا يريد مفارقتها. أغلقت الباب بعدما ودعته بقبلة على خده. فبقي واقفا يحدق فيه. ثم دون تردد ضغط على الجرس. ففتحت الباب فورا. كما لو أنها لا تزال هي أيضا واقفة خلفه. ما أن دخل وأغلقه، حتى خلعت قميصها وبان له الجزء العلوي من جسدها. فارتبك. بادرت إلى تقبيله، فاستجاب. حملها إلى الفراش بعد أن شلت الرغبة ركبتيها، وجعلت عينيها شبه مغمضتين. جسدها أحس به ينسكب من بين يديه لفرط رغبتها. همدت قوته في الفراش وخانته. فوقع في ترتباك مريع" (ص 157).

تبدو كغواص في أعماق البحر، يجوس القاع، بحثا عن الدر بل عن الدرة العظمى. ولا أراني أجد إلا المساحة الشاسعة التي تقطعها. كذا لا أراني أقع، إلا على الحكمة. على الفلسفة. على الثورة النائمة في أحضان ثعابين الخيال.

لا يُعجز علوية صبح التغلب على الأسئلة الوجودية ولا على الأسئلة الدينية ولا على الأسئلة الحياتية والمجتمعية، بل تعجزها دوما رزم الأسئلة التي تكون قد حضرتها لنفسها، من خلال معاقرة العيش في الأحضان العائلية. لذا أجد المسوغات الكثيرة، التي تقرب لي عملها كوعاء عائلي تتخالط فيه الأسرار، تتعثر ببنيات الطريق، يتعادل فيها النبع والنهر والبحر، وماءة مراقة تطفلت على جانبي الطريق، فشفت عن وجودية عظيمة، في وعاء عائلي بسيط:" في الفترة البسيطة التي قضوها في مدينة صيدا- جنوب لبنان، بدت أمه سعيدة، بسبب انقطاع جيهان عن زيارتهم إلا في ما ندر. مزاجها لم يتعكر، ولا سيما أن حلويات صيدا العربية، مذاقها ليس أقل جودة من الطرابلسية التي تعشقها. كانت تدخر المال وتحرم نفسها من أمور كثيرة لشراء هذه الحلويات. في بلدتهم غالبا ما كان غسان يرافقها إلى طرابلس، والحرمان يلمع في عينيه، حين ترفض أن تشتري له قطعة حلوى ليأكلها في المحل. تلكزه في خاصرته وتعده بأكلها في البيت" (ص 240).

لا أعرف ما حدود هذا الوعاء الذي أتاح لها أن تغرف منه الكنز الروائي، إلا على أنه وعاء عائلي. هو عمومي الوجود، غير أن علوية صبح جعلت منه وعاء مسحورا سحريا سريا ثريا. ولو أنها وشت به، أنه وعاء عادي عائلي غير مصنوع من عادياتها، التي جعلتها تتوارى في خزانتها الثقافية: "زوجات أبيها كن يتنافسن في إنجاب الأطفال، كي تدعم كل واحدة منهن مكانها في حياة عمه محيي الدين، ولن يكون سهلا عليه تخليه عنها، فيما عدم الإنجاب من واحدة منهن لن يشعرها بالأمان أبدا، ويبقى زواجها مهددا. وفي كل الأحوال، لن تضعه رلى أمام إمتحان الاختيار، فهي معتادة على وجود أكثر من زوجة في حياة الرجل" (ص260).

رواية " إفرح يا قلبي"، بالرغم مما تشي به من غنائية ومن شعرية، وبالرغم مما تتقمصه من واقعية، إنما هي عمل فني متنام بطول الأرض وعرضها. بدن عروس من الجن، ينبض، على إيقاع متكامل، يشكل وحدة بنيانه الهرمي ووحدة مضمونه العائلي، ثم لترى الأديبة ترقى به إلى نسيج من الأدب الإنساني الراقي، الذي يكمل تجديفه حتى الهتك بالموانئ وبالمقدسات على حد سواء. إنه الإيقاع الروائي المزدوج، الذي يوالف بين التوافه والمآثر، بين المندثر والمشع، بين الحقير والخطير. فعلوية صبح، كاتبة المفاجآت، بقلم من الحبر السري من تحت مخدة الموت السريري، الذي يؤول إلى البعث، إلى ورود الإنبعاث.

ما يتراءى للقارئ المتعجل، على أنه فوضى روائية في السرد والتأليف والبناء الروائي بعامة، تدحضه هاتيك الكرونولجيا المتسلسلة في تتبع المسارات والأحداث. فمن عادات الأديبة علوية أن تعود من البحر، حيث مصب النهر إلى الينابيع، حيث تفاجئك، وأنت تحتار في اختيار الدروب التي تريد أن تسلكها، للوصول إلى الخواتيم. وحدها المسارات الزمانية، تحدد لك معالم الدروب، لأن روايتها إنما اعتادت صحبة الزمان، لا إصطحاب الأمكنة. إنه السفر العائلي، على ظهر قضيب ناهض إلى القبة، حيث الفضاوات والثريات والأحلام والمجرات والركون الأخير في قعر المهاد، تحضيرا للولادات الثانية.

عالم مدهش، هو عالم علوية صبح. وبحث مضن أن يشقى القارئ في تحري الحقيقة، ذلك أنها لم تذهب في روايتها، للبحث عن الحقائق، وتقدم لها كسوتها، حتى تصير من "الكعبات"، وإنما كان شأنها أن تصطحبنا إلى الضفاف نقف معها هناك ونمضي وقتنا في التحديق، في الأرض في السماء، نقطع الوقت في التأمل في شأن هذا الخلق كله، الذي هو حظوتنا من الوعاء العائلي، في كرونولوجيا تنساب من أول النطفة إلى عمق الحفرة إلى شتول الزهر والورد، إلى جمر الانبعاث.


الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium