إبراهيم اليوسف*
لم تتأخر الرواية السورية كثيراً، عن مواكبة الثورة والحرب، في سنواتها العشر، أو الإحدى عشرة، فما كادت سنتها الأولى تجر أذيالها على بحر أول من الدم والأشلاء والهجرة والتهجير، حتى باتت الأعمال الروائية التي تناولت هذا الحدث العظيم، تصدر تترى، لتعبر عن وجهات نظر متعددة، وإن راح جميعها يتفق على الموقف من نهر الدم السوري. كل منها، على حدة، ولقد استطاعت الرواية التي كتبت خارج أسوار الوطن والتي يمكنها أن تتنصل من سطوة الرعب التي لطالما مورست في مواجهة الأشكال الأدبية - لاسيما الرواية - التي تبدو أكثرها وضوحاً، وطرحاً لرؤاها، بعكس بعض الأشكال الأدبية الأخرى التي يمكن للمبدع أن يلوذ بالرموز، ويتلطى وراءها، وقد بلغ عدد الأعمال الروائية التي صدرت خارج الوطن المئات!
بعد عشر سنوات من الثورة، فإن الحرب، وتبعاتها، جاءت رواية د. عواد الجدي لتكون مغايرة، كما روايات قليلة استطاعت أن تتوغل في عمق الحدث، باعتبار بطله أسامة بن الجرف قد عايش تفاصيل روايته، عبر مغامرة مرعبة، يشيب لها الولدان، لاسيما عندما يقع في شباك تنظيم داعش الإرهابي، ويكاد يلقى حتفه على أيدي هؤلاء الجلادين الغلاظ، إلا أنه يفاجأ بمن يأمر بفك أسره بعد ذريعة استتابته، ليلوذ بالفرار من الوطن، مرة ثانية، بعد أن عاد إليه - مرة أخرى - من ملجئه في تركيا، عساه يعود ببعض ما يلزمه في الوطن. حيث أمه، وعمارته التي سيتخذها التنظيم مقراً له، فيما بعد إلى أن يتم قصفها من قبل طائرات التحالف، وهو حال وواقع بيت الروائي ذاته!
عالم متكامل
حين يضيق بكَ الوطن وتضحي دروبه موحشة مقفرة، فخلفَ كل انحناءة يتربص بك قدرٌ مجهولٌ لا تعلم هل يأتيك من قلمِ مخبرٍ يسوقك به إلى حظيرة الطاعة الأبدية للقائد الملهم التقيّ الزاهد، أو من رصاصة قناصٍ يقتلك بدمٍ بارد ليضيف ضحية جديدة إلى سجل إجرامه.
وربما يأتيك من ناصية الشارع حيث دورية تنتظرك حتى تبتعد عن بيتك قليلاً ثم يحشرك بواسل الوطن بينهم وإلى الفرع.
وقد يأتيك من أخٍ قدم إلى بلادك من بلدان تسمع اسمها لأول مرة يقنعك أنك كافرٌ مرتد عليك التوبة وإعلان اسلامك من جديد، وعليك أن تشكر الله وتحمده أن بعث لك أخوة جاؤوا ليخرجوك من الظلمات إلى النور.
عندها لا بد من الرحيل، وعندما يحين الرحيل تُوقظ الشمس باكراً على غير عادتها وتنهض تنفض عن جفنيها وسن الليلة الفائتة وترسل ضفائر نورها المبللة بندى صباحات أيلول على بيته الحزين لفراق ساكنيه.
بذلك يبدأ الروائي السوري الدكتور عواد جاسم الجدي روايته التوثيقية صداع في رأس الزمن.
حين يتفق مع زوجته على الرحيل وأن (هذه الصحراءُ ما عادت أمينة).
(بكت أشجار الزيتون بصمتٍ، وعصافير المنزل نسيت غناءها الذي فُطرت عليه، فحبست تغريدها احتراماً وحداداً لهول الموقف وقدسية الفراق).
وعندما يكون الرحيل سيد الموقف تحزن الشمس وتنشب الغصة في الحلوق والحناجر وتنطفئ مصابيح السماء الدنيا لهيبة الرحيل وعواقبه.
(معظم النجوم غادرت الأفق وثمة حافلة رمادية صغيرة تهمُ بالانطلاق فجراً من أمام ذات البيت بعد أن أغلق الصغار أبوابه). وهنا يبدأ تشظي الذات فيغادر أسامه وأطفاله، يرافقهُ ذلك البويهيمي الرمادي المنافق، ويبقى الطفل ذو العينين الجميلتين .
وعلى البوابة الحدودية صعبة المنال يستعيد أسامة انطلاقة المظاهرات الأولى في دير الزور، وبعد الدخول وتجربة حياة المخيم القاسية يتوازى الكاتب والراوي في تصوير حياة المخيم وآلامه وأوجاعه، ويفترقان عندما يعود أسامة ليتفقد أمه وجراح الوطن ويعود لتنشأ علاقة حب خفي بينه وبين سندس خريجة كلية التربية.
لم يجد أسامه نفسه لا في المخيم، ولا في المدينة التي سكنها بعد المخيم وليست اللغة الجديدة ولا المجتمع الجديد سبب ضياعه، إنه بعد رابع تفوق على كل الأبعاد. إنه تجذر الوطن في ذات الكاتب والراوي على حد سواء.
وحيث تتجسد عذابات الغربة وتتمثل برغيف الخبز أولاً وكيفية تأمينه لزوجين وأربعة أطفال، تتلاشى صورة الغربة وقسوتها تلقائياً، أمام حاجة الأسرة للسكن ومستلزمات الحياة وحيثياتها، وتصبح العودة إلى الوراء. إلى وطن أصبح محتلاً ضرباً من ضروب المستحيل.
وحين يسقط القناع الزائف عن بعض المنظمات التي تدّعي الإنسانية وتتباكى على المشردين بدموع سخية أمام كاميرات التصوير، تحدث سندس في قوانين الهوى بدعاً ربما ستقرؤها الأجيال القادمة لعدة قرون، فيقرر أسامه الهجرة مرة أخرى ويركب البلم ليجد تيهاً جديداً في أثر أخفافه.
في اليونان حيث العتبة الثالثة نحو الهدف يلتقط أسامه، أنفاسه ويتفهم بكاء ابنه واعتلال صحته وحالته النفسية ويعود إلى ماضيه مقارناً بين طفولته الرحبة البسيطة الواسعة وبين طفولة ابنه الذي فقد مدرسته والِدته ومعلمته وحارة الشيخ ياسين برمتها.
وتتابع العائلة طريقها إلى عمق أوروبا بل إلى بلاد الجرمان، مشياً تارة وتحت جنح الظلام وفي الحافلات ومن كرواتيا إلى سلوفينيا وعبر النمسا بالقطارات تارةً أخرى، هناك يلتقي أسامة بمئات العوائل جاءت من أفغانستان وإيران والصومال ومن بلدان أخرى.
خلف بلاد الغال يستقر المقام بأسامة وعائلته، في ميونيخ كان خيار إعلان الرغبة في البقاء في هذا المكان الألماني، (القطار السريع الذي غادر محطة ميونيخ الرئيسية، واستوى على سكّته بعد أن ابتعدت المدينة، تخاله يهم بالطيران فوق سكّته لفرط السرعة، ومن بين القلوب التي على متنه قلوبنا التي وصلت إلى هنا قبل يوم واحد فقط).
وهنا تبدأ رحلة جديدة وحياة جديدة يترك المهاجر أسامة مجريات الأيام تسير وفق الترتيب الألماني ذي الخبرة الطويلة في شؤون الهجرة والمهاجرين، وخطوات الاندماج وتعلم اللغة والتعايش مع مجتمع آخر وأناس آخرين لهم لغة أخرى وتقاليد وثقافة وعقلية أخرى تختلف تماماً عن تلك التي يحملها أسامة وزوجته وأطفاله.
تبدأ خطوات الأطفال الأولى الحذرة على الأرض الجديدة إلى مدارسهم التي استقبلتهم ومنذ الأسبوع الثاني لوصولهم فالمدرسة واللغة أساسيتان مقدستان في حياة الألمان.
يلتقي أسامة بأناس من بلاد مختلفة، ولكن لم يخطر في باله يوماً أن يلتقي بـ (عصّويد) وعصّويد هذا رواية مستقلة بحد ذاتها فيعرف منه قاتل الكلب عصويد؛ الذي نشبت أثر مقتله حرب (العبسة وعصّويد) .
تتوالى ليالي الكامب الرتيبة لا يكسر مللها إلا معرفة وولفغانغ ذلك الدكتور الألماني المثقف واسع التجربة والاطلاع فيبدأ صداقة مفيدة مع أسامة، والذي يوجهه ويشرح له ميزات المجتمع الألماني، ويعطيه مختصر رأيه العميق في الحروب (يشعلها الساسة، وينفذها العسكر، وتكتوي بنيرانها الشعوب ).
تتواصل وشائج الحب العذري بكل معانيه بين أسامه وسندس التي تجدد عهدها معه وتعده أنها ستنتظره كل العمر حتى لو خرج والدها من معتقل صيدنايا حيث يقضي سياحة اصطياف طويلة الأمد هناك، ويعدها بل يجدد عهده لها (كل عام وحب بيننا لا يرحل، وعهد بيننا لا يزول، ووعد تباركه السماء يتحقق على الأرض....كل عام وأنت حبيبتي....!!).
ولأياً يستقر أسامة وأسرته في بيتٍ مستقل له جدران حقيقية يستطيع أن يسند ظهرهُ إليها، ويبدأ وأطفاله وزوجته رحلة الاندماج الماتعة في المجتمع الجديد، مدارس جديدة وجيران جدد ولغة جديدة، كي تمضي وتيرة الأيام على هذا النحو ...!!
ثمة مفاجأتان من العيار الثقيل قد تعصف بذهن القارئ لا بل قد تسبب له صداعاً، فلسفة الحياة عند وولفغانج وعبور سندس إلى اليونان وغرق البلم بمن فيه.
مفاجأتان كأني بالروائي يقول عنهما:
لو استطعت أن تتابع حتى آخر صفحة فاحضر كأساً ممتلئاً بالماء، لأنك ستحتاج في النهاية أن تشربها حتى الثمالة...!!
عود على بدء
لقد حاولت خلال هذه القراءة تقديم مفاصل عديدة للرواية، والتركيز على عرضها، وذلك لما لهذه الرواية من خصوصية، إذ إنها استطاعت أن تختصر روايات كثيرة، أو أن تتناول ما تناولته روايات عدة، وأن تضيف عليها جميعاً ما لديها، وما يميزها، وذلك بدءاً من رصد أحوال البلاد تحت وطأة الاستبداد، ومن ثم تناول زمن انطلاقة، أو بدء الثورة السلمية، وكيف تم التصدي لها من قبل آلة النظام التي لجأت إلى العنف - من دون نسيان ما ارتكبه فاسدو الثورة ومن حرفوا بوصلتها لاسيما راديكاليوها والكثيرون من ذوي اللحى الاصطناعية المرتزقة كما مسلحيها المأجورين، بالإضافة إلى رصد التحولات السريعة التي تمت من جراء العنف الذي لجأ إليه النظام، كي يتناول تفاصيل يوميات أسرة بطل الرواية التي هاجرت إلى تركيا، وأقامت في أحد المخيمات هناك، واصفاً بؤس الحياة في هذا المخيم، بعكس ما حاول بعضهم الترويج له، ما اضطره ليسكن مع أسرته في مسكن خاص، في إحدى المدن التركية، ويتحول من مثقف ومربٍّ ومدرب في مجال التنمية البشرية إلى بائع خبز، متجول، لتتم محاربته من قبل بعض المتسلطين من أبناء بلده الذين يمنعون أسرته من كسب الخبز الحلال وهو من ذوي النعمة المحدثة، ويعتدون على ابنه الكبير الذي يأبى أن يعمل والده في هذا المجال، ليضطر بعد انعدام حيلته إلى ركوب البحر، ومواجهة خطرالموت، ومن ثم وصف ملجئه الألماني: بلاد العميمة ميركل، إذ إننا أمام أكثر من رواية ضمن رواية واحدة، ما دفع ببعض قرائها إلى وسمها بالرواية الملحمة.
حقيقة، إن رواية - صداع في رأس الزمن - رغم إنها أول نتاج روائي صادر للكاتب إلا إنها تمتلك شروط الرواية، لاسيما في ما يتعلق بلغتها السلسة، وإمكانها في جذب المتلقي، وشده لمتابعة أحداث الرواية، المختلفة. هذه الأحداث التي تفلح في الربط الفني الجمالي بين تناقضات عدة، أبرزها تفاصيل الحرب إلى جانب يوميات الحب بين خريجة الجامعة، وطالبة الدراسات العليا" سندس" وبطل الرواية" أسامة"، ناهيك عن أكثر من مفاجأة من هاتيك المفاجآت التي لطالما وردت في نمط من الأفلام والأعمال السردية التي شدت القارئ إليها، ويعاد إليها الاعتبار في هذا العمل، ضمن سياق فني مدروس، لئلا تكون الرواية.
وإذا كان الكثير من ملامح سيرة الروائي تلتقي، وتتماهى مع شخصية البطل: أسامة ابن الجرف، وهكذا بالنسبة إلى أفراد أسرته. مكانهم. الأحداث والتحولات التي تعرضوا لها، أو مروا بها، فإنها لتصنف من عداد تلك الروايات التي يعتمد فيها الروائي على: السيرة أو المذكرة، وهو ما يمنحها الكثير من التشويق، والحيوية، ودقة تناول التفاصيل، لينقذها اللجوء إلى الخيال من تجنيسها - السيروي - لتكون رواية سيروية، إلا إن السيرة هنا أوسع. إنها سيرة مكان ووطن وإنسان!
ما أقدمه - هنا - هو ليس إلا عبارة عن عرض احتفائي، بهذا العمل الأول إصداراً للروائي د. عواد، ويمكن تناول العمل من وجهة نقدية دقيقة، في قراءة أوسع، باعتبار هذا المنجز يستحق ذلك، وسواه!
*صداع في رأس الزمن - رواية د. عواد الجدي - دار Inter Assist- ألمانيا - 2022
** شاعر وروائي وناقد سوري مقيم في ألمانيا