الدكتورة كاتيا الطويل
بعد روايتها "أن تعشق الحياة" التي صدرت منذ نحو سنتين، تقدّم الروائيّة اللبنانيّة علويّة صبح رواية جديدة لقرّائها بعنوان "إفرح يا قلبي" (دار الآداب، 2022). بعد نساء بطلات راويات ترافقهنّ الكاتبة في أعمالها الروائيّة السابقة، تقرّر أن تقدّم في عملها هذا عازف العود غسّان، شاب لبنانيّ هرب من الموت، من العنف، من الوطن، من العائلة، من الماضي، من الأمّ الضعيفة والأب القاسي والشقيق المتزمّت، لكنّه لم يتمكّن من الهرب أو النسيان تمامًا. بعد قصص كثيرة متداخلة متشابكة معقّدة في أعمالها السابقة، تقدّم الآن رواية قائمة على الهرب ورؤية الذات ومراقبة الآخر ومحاولة الفرار من دوّامة الألم، إنّما هل من فائدة؟
علوية صبح، كاتبة المرأة العربية بامتياز.
"إفرح يا قلبي" هي رواية الموسيقى والمنفى والغربة ودوّامة اللاانتماء وغياب الجذور والهرب من الوطن التي تقرّر أن تفتتحها الكاتبة بعودة إلى المنفيّ الأوّل الذائع الصيت إدوارد سعيد. وبعد رواية محاربة أمراض الجسد والأوطان عبر الرقص، تنتقل علويّة صبح إلى الموسيقى لتجسّد عبرها آلام جيل ومجتمع وإنسان يبحث عن ذاته. وكأنّ علويّة صبح تعترف لقارئها بأنّ فنًّا واحدًا لم يعد يكفيها لتعبّر عن آلام المجتمع ومآزق أجياله فراحت تمزج الفنون بالكلمة لتحمّلها الهموم والقضايا ومآسي المجتمعات العربيّة. وتختار أن تنسج روايتها على وقع آيات قرآنيّة منصهرة ببراعة مع عناوين أغانٍ من الزمن الذهبيّ القديم ليتحوّل النصّ إلى سمفونيّة هادئة صامتة لا ضجيج فيها ولا هدير إنّما القليل من الحزن والكثير من الهرب.
بعد الهرب، عودة!
تقدّم علويّة صبح في ثمانية عشر فصلاً مسيرة بطلها غسّان وعائلته المكوّنة من أب متسلّط وأمّ خانعة وستّة إخوة من الرجال المختلفين طبعًا وطابعًا وخلقًا وخُلُقًا. فمنهم الحنون ومنهم القاسي، منهم المائل إلى الأنوثة ومنهم العنيف، منهم المتزمّت ومنهم المتحرّر. نماذج من رجال نقع عليهم في مجتمعاتنا تربّيهم عاداتنا وتحوّلهم إلى أعداء في ما بينهم لا محالة. سنوات من الصراع والمراقبة الصامتة والخوف توصل غسّان البطل الذي يرافقه السرد إلى نقطة اللاعودة، نقطة الرحيل والتشرّد، فيبدأ السرد برحلة الهجرة والغربة إلى أميركا بعيدًا من البيت الأوّل: "البيت الذي سكنه الحزن والقهر والموسيقى والصراخ والعتمة والكراهية، تركه خلفه إلى الأبد" (ص: 9).
يرحل غسّان بعد أن تقع المصيبة ويقتل الشقيق شقيقه، يهرب عازف العود وعاشق الموسيقى الشرقيّة إلى نيويورك مدينة الغرباء ويختار أن يترك خلفه كلّ شيء حتّى الموسيقى العربيّة التي عشقها على يدي جدّه منذ صغره، فيقول: "وما يهمّه الآن هو العزف على الآلات الموسيقيّة الغربيّة فقط، وأن لا يعزف على العود أبدًا. في الغربة" (ص: 21). تربط علويّة صبح بحنكة مبطّنة هجرة الوطن وهجرة العائلة بهجرة الموسيقى الشرقيّة وآلاتها، فيتحوّل غسّان إلى إنسان هارب على مختلف المستويات: جغرافيًّا ونفسيًّا وفنّيًّا. حتّى على صعيد الحبّ يهرب غسّان إلى أحضان امرأة أميركيّة تكبره بالعمر والتجربة ويشعر بشيء من الدونيّة نحوها، دونيّة تفضخها المقارنات الدائمة التي يقيمها بينها وبين نساء بلاده.
على غرار شبّان لبنانيّين كثر يهجرون ماضيهم يحاول غسّان الهرب من دوّامات الماضي والذكريات والألم لكنّ الجذور لا تموت، وكأنّها لعنة. تحكم علويّة صبح بشيء من القسوة الفرويديّة على شخصيّة غسّان بالفشل في رحلة هربه عندما تعيده إلى أصوله وتجعله نموذجًا مشابهًا للنماذج التي هرب منها في الأساس. غسّان الذي كره صورة والده وأشقّائه المتزمّتين العنيفين عاد إلى لبنان وأصبح الرجل الذي خشي أن يصبحه.
ففي رحلة عودة لا مفرّ منها يتحوّل غسّان إلى الرجل الشرقيّ الذي كرهه دومًا، يتحوّل إلى صورة جديدة من صور رجال مجتمعه هو الذي أمضى عمره يهرب منهم: "كان يعتقد أنّه لا علاقة له بالذهنيّة الشرقيّة التقليديّة وأنّه يرفضها بل يكرهها، لكنّ زواجه برُلى أدخله في طاحونة طالما هرب من طحنها له" (ص: 299). غسّان الذي كان يرفض الإنجاب أنجب، غسّان الذي كان يرفض الظلم ظلم رُلى، غسّان الذي كان يكره خضوع أمّه لأبيه أحبّ خضوع المرأة الشرقيّة في زوجته الثانية، غسّان الذي هرب من عنجهيّة والده وخياناته تزوّج مرّتين وكذب مرّات وخان وغدر وتسبّب بموت من تحبّه. فهل هي لعنة الجذور التي لا تغادر الإنسان؟ هل يعود المرء إلى أصله دومًا لا محالة؟ هل تكرّس علويّة صبح في نصّها هذا نظريّة أنّ الإنسان لا يمكن أن يهرب من هويّته وتربيته وأصله مهما حاول ومهما ابتعد؟
المرأة الحاضرة دومًا
يخطئ من يظنّ أنّ علويّة صبح توقع من يدها في أيّ لحظة من لحظات السرد راية المرأة، فعلى الرغم من أنّ السرد يرافق رجلاً وعازفًا بارعًا يتنقّل بين أوروبّا وأميركا، تبقى المرأة الشخصيّة الأولى المحبوكة في نسيج النصّ وداخله بنماذجها الكثيرة: المرأة الأمّ، المرأة الحبيبة، المرأة الزوجة، المرأة الشرقيّة، المرأة الغربيّة، المرأة الابنة، إلخ. نساء كثيرات يطالهنّ السرد إنّما هذه المرّة اختارت صبح أن تجعلهنّ دوائر محيطة بالراوي وليس هو بنفسه.
عدم تطرّق صبح إلى المرأة بشكل مباشر لا يمحو وجود العنصر الأنثويّ في نصّها بل يحوّل اللعبة السرديّة إلى لعبة جديدة مختلفة عمّا اعتاده قارئ أدبها. فجُمَلٌ كثيرة ثاقبة تفضح أدب علويّة صبح الذي يحمل كعادته شعلة الدفاع عن المرأة المقهورة والمعذّبة ويذكّر القارئ بأنّ علويّة صبح إنّما هي كاتبة المرأة العربيّة بامتياز ومن دون منازع، فيقع المتلقّي على جمل كمثل: "ولمّا كبر غسّان فكّر كم أنّ أمومتها سحقت أنوثتها ولم يبقَ من أثر لها فيها" (ص: 29) أو كمثل: "أمّا الأحزمة والعصيّ فمعلّقة على الحائط وجاهزة لضرب أمّه" (ص: 43) عبارات ومشاهد تؤلم القارئ وتوجعه من دون أن تكون موجّهة مباشرة نحوه لكون صُبح تعتمد في عملها هذا تقنيّة السرد الأوّل والسرد الثاني، ما معناه أنّها تحفر القصص والشخصيّات في دوائر سرد متعدّدة تحوّل الفضاء السرديّ الذي تقدّمه إلى بئر مستويات، تمامًا كما يصف الفيلسوف والناقد المجريّ الماركسيّ جورج لوكاش (1885- 1971) في مقالاته النصّ الجيّد بأنّه النصّ الذي يملك مستويات ويقدّم في الوقت نفسه درجات عدة من السرد المتداخل المتراصّ.
لا تخيّب علويّة صبح آمال قرّائها في عملها "إفرح يا قلبي" فتقدّم رواية الألم والهرب والغربة والمنافي، تقدّم أغنية أنيقة للشرق المتألّم المضرّج بالدماء والحروب والفتن والهجرة. النسيان نفسه يصبح مهمّة مستحيلة على من يغادر، فتقول صبح على لسان بطلها: "لم يكن خائفًا إلاّ من ماضٍ يلاحقه" (ص: 16). فهل يستطيع المرء أن يهرب من ماضيه؟ هل يستطيع أن يتغيّر؟ هل يستطيع أن ينزع عن نفسه آلام الماضي ومآزقه؟ يبدو الجواب للأسف سلبيًّا في عمل علويّة صبح. فعلى الرغم من أنّها تأمر قلب بطلها بالفرح على غرار الأغنية الذائعة الصيت يبقى الفرح بعيدًا عن العين وعن القلب في لعنة أبديّة لا ينجو منها أبناء هذا الشرق المشؤوم: "تكبر وتنسى، قال له جدّه يومًا، لكنّه كبر ولم ينسَ" (ص: 177).