تنطلق مجموعة أجود مجبل الشعريّة "مناسك تشرين" الصادرة عن دار سامراء (طبعة أولى 2021) من فكرة تمرّد العراقيين على الواقع القاتم، طارحًا من خلال قصائده الكلاسيكيّة شكلاً إشكاليّة عصريّة، هل ترسّخ الثورة من خلال الألم ومعه؟ أم تحنّط الثورة؟ خاصة وأنّ مذهب الموت والدم والفقد كان حاضرًا بقوّة بمختلف الصيغ والدلالات ليشكّل خارطة سياسيّة واقعيّة ورؤيويّة خاصة بالشاعر مغايرة لخارطة العراق الخضراء المجيدة المرسومة بقلم التغنّي...
الثورة : بين التصوير والفضاءات المكانيّة
عمد مجبل الى توسيع رقعته الشعريّة على أكثر من مكان أو أكثر من فضاء مكانيّ، لكن اختلفت الدلالة المعنويّة بين فضاء وآخر، ليضعنا الشاعر أمام ما يشبه " الوحدات الشعريّة " التي تترجم في الرواية تحت مسمّى الوحدة السرديّة والتي تعني الانتقال من حدث الى آخر أو من وضعيّة سرديّة إلى أخرى، ولعلّ صاحب قصيدة "سادة الفحوى" لم يبتعد عن الحسّ الوطني بل تغلغل في دواخله، وإن فضّل بحكم الثورة والقمع الاجتماعيّ والفكريّ والترهيب الميليشيوي الذي نال من العراقيين وأنهكهم وحرمهم من أبسط مقوّمات العيش، أن يترجم هذا التوغّل والتغلغل وفقًا لعدة مدن وبلدات، بدءًا من العاصمة بغداد التي جرّدها مجبل من طابعها التقليدي وأبعدها عن الإناء المستهلك الذي ينضح بالتغنّي بمكانتها الثقافيّة وغيرها ليرسمها كامرأة ثكلى ساكنة "أولاد ثنوة / حولي في وسامتهم / كلّ يشع على بغداد كالنجم" (ص.44). هذه المسرحة أو التصوير المسرحي والبياني لحال بغداد المظلمة والتي أفرغت من النور والهالة لمجرّد انطفاء أفرادها، يضعنا أمام تساؤل قديم جديد، هل المدن تقوم على حال أفرادها أم الأفراد يقومون على حال مدنهم؟ وفي حال قصد الشاعر من خلال هذه الصورة أنّ الأفراد هم من يصنعون مدنهم، هل بذلك نحن أمام طرح يفيد بأنّ المدن وأصالتها وتكوين هويّتها خاضعة لمدى تصويب الأفراد لفكرها؟ لم يقتصر تصوير مجبل الشعريّ على بغداد وحدها، بل مرّ بشكل بانوراميّ من خلال قصيدة "سلامًا" على أكثر من مدينة حاولت مقاومة الرصاص والخوف والجوع والقتل من خلال الصوت والكلمة، لكن في هذه القصيدة لم يكن مجبل شاعرًا بقدر ما كان خطيبًا نظّم خطابه الانفعالي تكريسًا لبصمة طلل ما على الوعي الشعبي "سلامًا للسواديين / هنا ولدوا على قلق" (ص.9) "وكم في نينوى ماتوا / وفي تكريت والأنبارْ" (ص. 11)، هذا المرور البانوراميّ الخطابيّ قد حصره مجبل من خلال نقطة ارتكاز جغرافيّة لها مكانة عاطفيّة لدى العراقيين المنتفضين ألا وهي الناصريّة التي شهدت كما سائر المدن العراقيّة أقسى درجات العنف والترهيب والقمع من قبل الدولة وأجهزتها وقنّاصيها من جهة، ومن قبل الأحزاب المنحازة لمحور يرفض التمرّد ويناهضه من جهة أخرى، حتى تشكّلت حالة من التواتر المعنوي واللفظي للناصريّة توزّعت على مختلف قصائد المجموعة "لكنّهم رغم قنّاصاتهم عجزوا جدًّا / وما أقنعونا بالسلاطين" (ص.22 ) "فأحاط به القناصون / وأقذر حرّاس الهيكل (ص.28)" الناصريّة لن تنسى براءتهم / وسوف تصنع من أحلامهم زمنًا"، "الناصرية سجيّل الطغاة / وفتيان يضيفون أقمارًا الى الأفق" (64).
لم يكن سهلاً على مجبل أن يوزع بالتساوي انفعاله وعاطفته على مختلف المدن والبلدات العراقيّة الأمر الذي شكل عدة فضاءات مكانيّة، لكن في الواقع قد انضوت كلها تحت قوسين هما بغداد والناصرية حيث كانت الأولى عاصمة النتائج وما يترجمه الشعب على الأرض من ردود فعل ومناهضات وغضب "وبغداد تجلس فوق الزمان / سيّدة من عبير وسكّر" (ص.58)، والناصريّة بيت الأسباب والعوامل وخزّان الدم الحامي "الى الناصريّة يأتي الإله / على شكل تلويحة أو غناء" (ص. 95)، الغناء والإله مفردتان انفعاليتان عاطفيّتان بالمبدأ لم تدخلا العقل البشري قبل القلب... ويكون بذل الشاعر قد وزّع ثورته وثورة الشعب المشتّت بفعل السياسة والحلم والرصاص على عدة فضاءات مكانيّة تاركًا لكلّ فضاء مشهديّة تليق به وتناسبه.
الأسطورة والتناصات الفكريّة
لم يستطع شعراء الحداثة وخصوصًا الذين التزموا القضايا الوطنيّة والإنسانيّة أن يبتعدوا أو يتسللوا خارج فضاء الأسطورة والتناصات بدءًا بمحمود درويش وخليل حاوي وأمل دنقل وغيرهم، ولم يقتصر التناص على التعريف العلمي الذي ذهب اليه جمهور من النقّاد الغرب الى أنّه كناية عن المتعلقات النصيّة بل جنح الشعراء الى جعل هذه المتعلقات قابلة للتأويل والتفسير والتحليل، ولعلّ صاحب مجموعة "كأنّه" اتّجه نحو التناصات والأسطورة لا ليعيد الأمجاد الى العراق بل ليصوّر الواقع المبتكر بفعل الحركة والحدث من خلال مشهديات زمنيّة عتيقة، بدءًا بسيزيف الذي وبشكل بديهي ينسب الى الشعب العراقي "جيل من الشجن الثوري/ رافقهم سيزيف / واعتنقوا حزن الملايين" (ص. 20)، لكن من خلال هذه الصورة أوقعنا الشاعر في لغط ودائرة ضبابيّة، هل كانت الثورة هي سيزيف أم القسوة المجتمعية والمعيشية هي سيزيف؟ خاصة وأنّ إلحاق صفة الثوريّة إن دلّت على شيء فهي خير دليل على أنّ الشعب تحرّر جماعيًا من اللاصفة ونعته بالثوريّ، ليكون التساؤل إذا كان سيزيف يمثّل ما يمثّله من تحمّل العناء نتيجة الخطيئة، فهل الشعب العراقي الثائر دفع من وجهة نظر الشاعر الثمن نتيجة خطاياه المضمرة والمعروفة ولهذا اعتنق الحزن باسم الملايين؟! لم يقتصر الطابع الأسطوريّ فقط على سيزيف بل اتّجه مجبل نحو التناصات الدينيّة والمقاربات القصصية الدينية وإسقاطها على الشعب العراقيّ وحالته في الميادين الثوريّة "اذا عاد إبراهيم يومًا لأورهِ سيرجونه / حتّى يكون أميرهم" (ص.89) "فخذ بيدك الفأس/ وأجعل رؤوسهم جذاذًا / ولا تستثنِ منهم كبيرهم" (ص.90) استعانة الشاعر هنا بابراهيم (ع) كناية عن الفرد الذي لا يهدأ فكره، القلق والمتسائل حيال واقعه وما يدور حوله من ظلم وطيغان وتغيير وتبدل للوقائع... هذا التسلسل في وصف العراق وحال شعبها والإسهاب في الإضافات الرمزيّة والسيميائية تبعه في قصيدة طفل الأرض تأويل مغاير يضعنا أمام جملة من التساؤلات، منها هل صفة الطفل تقتصر فقط على العراقيين "الجدد" الثائرين أم على عامة العراقيين؟ "طفل القراءات القديمة ليس معنيًا بما ارتكب الرواة وحرَّضوا" (ص.121).
لم يكن استخدام التناص والأسطورة انطلاقًا من النماذج التي قدّمناها أعلاه مجرّد تتمة لمشهدية شعريّة أو صورة بيانيّة تنسحب على عموم المجموعة وكلّ نصوصها، بل كانت محطة إشكاليّة ومسرحًا لتأويلات عدة ولو كان بعضها يثير الضبابيّة والغموض الثقيل، لكنّ الثابت أنّ مجبل نجح في الانقضاض على الشكل الكلاسيكي للقصيدة بأنياب شعريّة حديثة تحاكي الحاضر والمستقبل مبتعدة عن الاجترار ومنطق الاسترجاع أو التنبوء (الاستباق).
صنع الشاعر من مجموعته مناسك تشرين معرضًا لفترة زمنية قابلة لإعادة إنتاج ذاتها في بلد خسر شعبه كلّ مقوّمات الحياة، وبات يعتاش من أمل العودة الى سابق العهد من خلال التاريخ والحفاظ على هذا التاريخ.
ولو أردنا اختصار ما حاول مجبل إيصاله من هذه المجموعة، لما رأينا أنسب من سطر محمود درويش في قصيدته المغنّاة جواز السفر ليكون رديفًا لهذا النزيف البابلي "وكان جرحي عندهم معرضًا / لسائح يعشق جمع الصور".