وقّع الكاتب بيار الصايغ ديوانه الشعري الخامس باللغة الفرنسية الصادر عن دار آرماتان في العام 2022 "Reflets et Amertume"، ضمن فاعليات المهرجان اللبناني للكتاب بنسخته الأربعين، بعنوان "ثقافة الحرية والمئوية الثالثة للحضور الأنطوني في انطلياس"، والذي أقامته الحركة الثقافية في أنطلياس في دير مار الياس بحضور نخبة من المثقفين والمتذوّقين والعائلة والأصدقاء.
وتحدث هاوي الشعر كما يقول عن كتابه وعلاقته بالشعر والكلمة واللغة الفرنسية، مشيراً إلى أن هذه اللغة التي تبنّاها وأحبها في المدرسة وفي المنزل كآلته الموسيقية، يعزف عليها حسب الإلهام ووفقاً للضمير. ثم قرأ بعضاً من قصائد ديوانه أمام الحضور وأبرزها قصيدة لمدينة بيروت بعد تفجير مرفئها في الرابع من آب عام 2020 حيث يطلب منها عدم الاستسلام رغم تضرّر جزء كبير منها وقتل المئات وجرح الآلاف وامتلاء المستشفيات في وقت قصير.
ونوّه الصايغ بالأطباء والممرضات فيما استمرّوا بأداء عملهم الإنساني بشكل بطولي رغم الذعر والجراح والصعاب. ونوّه أيضاً بالشباب من كل المناطق اللبنانية الذين اندفعوا تلقائيّاً بالمئات لكنس الشوارع والمنازل من الزجاج والحطام وللمساعدة في ترميم المدينة مع الجمعيات المختصّة بعد أن أدّى التفجير إلى تدمير جزء كبير منها. وقرأ هذه القصيدة بعنوان:
"Beyrouth relève-toi"
جراحك تشتد
مثل الشَعر المبلول
وثيابك عارية
دون جسد متعطّش
(للحريةّ أو للنضال...)
دماؤك العزاء
دموعك الصلاة
إرمي دون اعتبار
كل الثقل والتعتير
وضعي في مشعلك
احتضار أخوتك
ويعتبر الصايغ أن الثقافة في العالم عامّةً وفي لبنان خاصةً في حالة خطر شديد، في حالة تشتت. والتبعات المباشرة لذلك هي إضعاف ما هو ملتصق بجوهر الإنسان أي ما ينبع من داخله بشكل ايجابي أو ذات آثار ايجابية، تكون إحدى ظواهره الفن، كما يرى أن الكلمات هي المؤشّر الثقافي الأوّل حيث تكون الدليل الأوحد لجوهر الانسان. فنشأت معه ورافقته خلال العصور واحتضنته الحضارات وتطورت معه، لا سيما عبر تلاقي الأجيال، وتشابك الثقافات وتنافس الآداب وتضارب الأفكار.
ولكن بالنسبة للكاتب، لا نتحدّث هنا عن الكلمات التي نرميها يميناً أو يساراً بدون اعتبار، بل نتحدًث فعلاً عن الكلمات التي نضعها بتأنٍّ أي بتفاعلنا ليس فقط مع معناها الأول أو الظاهري، ولكن أيضاً مع ماهيتها العميقة وركنيها الأساسيين الإنسانية والإحساس. وفي ظل تشتت الثقافة تترتب أيضاً آثار غير مباشرة، منها اندثار التعاطف وازدياد العنف وتفاقم الأزمات واشتداد النزاعات القائمة واندلاع حروب جديدة. فالثقافة الحقيقية والكتابة بشكلٍ خاص تبني الجسور بين الأشخاص والمجموعات ولا تدفع نهائيّاً إلى الانعزال أو التقوقع الإيديولوجي كما يصوّرها البعض.
وفي السياق، وفي ظل الظروف الاستثنائية والصعبة للغاية التي نمر بها في لبنان، يرى بيار الصايغ أن الاستجابة لدعوته ليست عملاً بسيطاً أو ثانوياً أو هامشياً، بل عمل أساسي، جدّي وفعّال يتجسّد في المقاومة الثقافية التي نتطلع اليها ونتأمل بها. وأشار إلى أن المشاركة والمساهمة في مناسبات توقيع الكتب لا يقتصر في هذه الأيام على تشجيع الشباب اللبناني على كتابة القصائد ونشرها أو القيام بنشاط ترفيهي ما أو ممارسة هواية ما، بل هي أكثر من ذلك. هي بمثابة عمل إيجابي بالغ الأهمية يرقى إلى المساهمة في التثبيت الثقافي ويلامس تفكيراً ويطرح نهجاً مشابهين للذين قد نحتاج إليهما في الاختيار المجتمعي أو الاقتراع السياسي. نعم، بعملٍ كهذا قد نقوم بخطوة عملية يمكن أن تؤدي الى سلوك مفصلي على صعيد قناعتنا الذاتية. وحول ماهية نظرتنا للمجتمع؟ أي نموذج نريد؟ والجواب هو عبر القيام بهذه الخطوة.
الديوان "Reflets et Amertume" يحتوي على مواضيع عدة تشمل عملية الكتابة بنفسها كما ورد في قصيدة "J’écris" في الصفحة 54. فيشبّه الكاتب في المقطع الثالث أصابعه التي تمسك القلم بتلك التي تلمس السكون محاولةً استنزافه أي البدء بالكتابة ولكن لم تنجح. فكيف ذلك ومن الأصابع والجراح ينشأ الورد بل الورود البكماء؟ اي أنها لم تتأثّر بالجراح فهي معتادة مواجهة الأصابع بالشوك ولا كلمات تعبر عنها، إذ تنتظر تطور ما سوف يحدث في القصيدة فيما بعد. كذلك في المقطع ما قبل الأخير من قصيدة "Home" في الصفحة 67 حيث يقول الكاتب:
"الاسم ينتظر الفعل... والفعل ينتظر الإسم ... فهل لكائنين أن ينتظرا بعضهما دون أن يحبّا؟"
فهنا دلالة أخرى على أن الكلمات ليست فقط شكلية ولا تحتوي على معانٍ محددة علمياَ فقط بل تحمل أيضاً معنىً أكثر عمقاً، وعابراً لينقل صورة الإنسان بمعناه الفلسفي والروحي والقيمي أي الإنسان المبدئي الجامع.
من هنا، يتبنّى الكاتب أيضاً قضايا مختلفة مثل نهضة الشعب اللبناني ومعارضته الشرسة للنهج القائم الرامي إلى قتله قتلاً بطيئاً في المقطع الثاني من القصيدة "Liban se lève" صفحة 48 مثلاً:
موحدون تحت العلم
نرنّم النشيد ذاته
صوت الإسعاف
يمتزج مع صوت النار
اندفاع الساحة
لم يخفض عينيه
يده على قلبه
وفي فمه نار
الوطن يكسر الخوف
ويرمي بعيداً حقده
وتبنّى الكاتب أيضاً قضية الشعب السوري في ثورته من أجل الحريّة والعدالة ومقاومة الظلم. فأهدى قصيدة لأهالي حلب الذين هُجّروا قسراً من مدينتهم المعروفة بقلعتها التاريخية وبصابونها وحلوياتها وعطورها المميّزة. وقد حصل ذلك سنة 2016 بعد عدم اكتراث مريب من قبل القوى العالمية المؤثّرة وأبرز الهيئات الأممية المولجة حماية حقوق الإنسان والمدنيين بشكل خاص. فهنالك مشهد معيّن لفت انتباه الكاتب عندما كتبت امرأة على حائط من جدران حلب قبل المغادرة: "سوف نعود". يمكننا التماس ذلك في المقطع الرابع عشر من القصيدة "Nous reviendrons" صفحة 16:
يا شعب سوريا
حتى مدمم
حتى مقتول
حتى النهاية لديك كرامة
حتى النهاية فخور!
يدك التي تحن
على الأحرف والكلمات
يدك التي تحن
على الأعين التي تحلم...
"سوف نعود" كتبت
"سوف نعود..."
إذهبوا نعم إذهبوا
واحموا هذه الشعلة
التي ستسقي العالم
والكاتب يسأل أيضاً عن فرض الحجاب على النساء في مجتمعنا، ولمَ لم يتم فرضه على الرجال مثلاً في حال كان فعليّاً الحجاب علامة تديّن مع كل الاحترام للدين الإسلامي.
ولكن إن كان غير ذلك أي وسيلة لإخضاع المرأة ولتدجينها ولطمس حريتها وخاصة إن حصل ذلك رغماً عنها أو خارجاً عن ارادتها الحرة والمنوّرة، فيدين الكاتب ذلك ويقترح بنغماته الخاصة عزف قطعة ترسم الأمور كما يطمح اليها، وتغنّيها امرأة حرة ومتفائلة ومنسجمة مع ذاتها. فهذا الموضوع يأخذ صدىً مميّزاً خاصة بعد أن عمّت إيران مؤخّراً الاحتجاجات بعد مقتل الشابة مهسى أميني في الاعتقال بعد أن رفضت ارتداء الحجاب.
وبدأت النساء يخلعن حجابهنّ في الأماكن العامّة رغم الاعتقال والعنف الممارس ضدهنّ في رمز واضح للتحرّر ومقاومة الظلم وعدم القبول بعد الآن بمعاملتهنّ وكأنّهنّ كائنات محكومة بالعار أو بالتبعيّة. وقال في المقطع الثالث من قصيدة قي صفحة 41: “Hommes Voiles”
رجالكنّ يركضون في الرياح
هم يعلمون الحريّة!
وتحب الرياح شعركنّ
والحريّة تعطيهنّ المفتاح!
وتطرّق الكاتب أخيراً إلى موضوع الحب في قصيدة
في الصفحة 72: "Nymphe brulante"
ما النهار
دون نور
ما الليل
دون نجوم
ما البحر
دون ملحٍ
ما الوردة
دون شفاهك؟
قصائد بيار الصايغ كلحن يُعزف بين السطور وترقص عليه الكلمات كروح العالم الذي يتنشّق ويعشق الحريّة ويتحرّر من كل القيود التي تسعى الى تشويه الإنسانيّة والإحساس، ركيزتا الكلمة كما يراها. لذا، وكما يتطّلع الى صور قصائده كالبريق الذي يجمع ما بين الإنسان وحقيقته الجوهرية، كذلك يدعوكم، ويريد منكم السير على خطى الإنسانية.
ولا يسع القارئ أن يتجاهل أبداً القليل من المرارة في الطعم كمرارة الحياة التي يجب أن تحرّك الإنسان، وتحرّكه نحو الأفضل دائماً. وختاماً، "Reflets et Amertume" هو كتاب مقاومة ثقافية.