أسجّل هذه الملاحظات، على هامش فوز الروائيّة الفرنسيّة آنّي إرنو قبل أيّام بجائزة نوبل للآداب، حيث رأت الأكاديميّة السويديّة في براءة الجائزة أنّها تتميّز بكتابة السيرة الشخصيّة والذاتيّة كما لا يكتبها أحد، وأيضًا بـ"حياديّتها"، و"شجاعتها ورهافة حسها المفرطة في كشف جذور الذاكرة والقيود الجماعية المفروضة عليها".
كتابة السيرة الذاتيّة والشخصيّة، على رأسي وعيني. أمّا الكتابة الحياديّة، وفي الأدب، فلستُ أدري. "لا أضع في ذمّتي"، على ما يُقال في العامّيّة اللبنانيّة.
لا أخفي أنّي أجد مشقّةً كبرى في تفهّم "الخيار" الحياديّ، والتزامه في الكتابة، وصيرورته علامةً يوسم بها أدبُ كاتبٍ أو كاتبة، شاعرٍ أو شاعرة.
شخصيًّا، لا أعرف كيف يكون المرء حياديًّا إزاء الحبّ مثلًا، والجمال، والشغف، والشهوة، والحلم، والوجع، والوباء، والقتل، والموت الطبيعيّ، والانتحار، والمجازر، والزلازل، والفيضانات، والقنبلة النوويّة، والتمييز العنصريّ، والاضطهاد، والإرهاب، والديكتاتوريّة (والطبقة السياسيّة في لبنان والحكم والسلطة والعهد والعصابة)، وهلمّ.
أنا أعجز من أنْ أكون حياديًّا. لا أملك هذه الموهبة، هذه النعمة، ولا هذه الحنكة، ولا هذا المراس، ولا هذه "المَلَكة" التي تجعلني "باردًا"، ذا "أسلوب أبيض" (على قول النقد)، بل "منفصمًا" بين أنْ أقول نفسي، والجًا أعماقها وبواطنها، كاشفًا مشمِّسًا معرّيًا وفاضحًا، وأكون في الوقت نفسه على الحياد.
على الحياد؟ مستحيل. بل الكتابة الحياديّة عندي هي – في الأدب - رابع المستحيلات.
أتدارك فأقول: لا بدّ من أن تكون هذه الكتابة الحياديّة علامةً من علامات البطولة، أو النبوغ الأدبيّ، ومعيارًا من معايير الدربة القاسية، التي تجعل الكاتب – في الآن نفسه - شخصًا ثانيًا – آخر، بما يمكّنه من أنْ يكون "موضوعيًّا". لكنّي لا أعرف حقًّا كيف أكتب سيرةً ذاتيّةً، وأكون "حياديًّا" - "موضوعيًّا"؟
لكنّي أجدني أقول بإفراط – لولا بعض التحفّظ النقديّ والتهيّب الأكاديميّ – إنّه ما من كتابةٍ استثنائيّةٍ عظيمة، شعرًا وروايةً، إلّا إذا كانت كتابةً – ذاتيّةً وشخصيّةً - ومنطلقةً من الأغوار الفرديّة الدفينة. وأجدني أقول بإفراطٍ أيضًا – إنّ الكنوز الأدبيّة التي تكتب التواريخ والقضايا والهواجس والذاكرات الجماعيّة والحروب والمجاعات والأهوال والأساطير والمؤثّرات، ما هي إلّا (كتاباتٌ) كنوزٌ ذاتيّةٌ وشخصيّةٌ في طريقةٍ من الطرق، وفي معنى من المعاني.
إذا كان من سببٍ جليلٍ يدعوني إلى تبجيل الخيار النوبليّ الأدبيّ هذا (تتويج آنّي إرنو)، فهو لأنّه يبجّل الذات، السيرة الشخصيّة، المصدر، النبع الشخصيّ، الذي هو ينبوع الينابيع كلّها في الأدب، بل هو أمّ الينابيع، وأبوها، وعلى الإطلاق.
هذا التتويج هو مصدر تعزيةٍ شخصيّةٍ لي، لأنّي لا أكتب إلّا "السيرة"، إلّا "الذات"، حتّى عندما أكتب "الموضوع". لم أفعل شيئًا يُذكَر في حياتي، إلّا الأمانة للذات، والحفر فيها، من أجل أن تكون أدبًا تحت القمر، تحت الشمس. وهذا، مذ خُلِقتُ، ومذ شعرتُ، ومذ عقلتُ، ومذ أدركتُ، وأيضًا مذ بدأتُ الكتابة الأدبيّة قبل أكثر من خمسة وأربعين عامًا، وعلى مدى كتاباتي كلّها، وبلا استثناء.
"أكتب انطلاقًا من ذاتي، لكنّها ذاتٌ ليست هي ذاتي. أكتب الحياة انطلاقًا من تجارب عشتُها ولكن ليس بحثًا عن المنطق، عن الترابط المنطقيّ في الحياة"، و"أنا لا أكتب إذا لم يكن هناك مشاعر"، تقول آنّي إرنو.
المجد للذات، للمشاعر، للسيرة الذاتيّة، لأنّها هي أيضَا سيرة جماعيّة. شعرًا وروايةً ونصًّا ونثرًا وهلمّ.