النهار

كتاب فكتور سحّاب الجديد في مئويّة وفاة الموسيقار العربي: "سيد درويش المؤسِّس"
المصدر: "النهار"
كتاب فكتور سحّاب الجديد في مئويّة وفاة الموسيقار العربي: "سيد درويش المؤسِّس"
كتاب فكتور سحّاب.
A+   A-
يصادف عام 2023، ذكرى مرور مئة سنة على وفاة الشيخ سيّد درويش، رائد الموسيقى العربيّة في القرن العشـرين. وقد أصدر الدكتور فكتور سحّاب للمناسبة كتابه الجديد: سيّد درويش المؤسِّس، (دار نلسن، بيروت، ودار ريشة، القاهرة) تكريماً لهذا الرائد العظيم، الذي ترك بصمات واضحة على الموسيقى الكلاسيكية العربية المعاصرة، وأنشأ مدرسة نهل منها الكبار، وعلى الخصوص محمّد عبد الوهّاب والشيخ زكريا أحمد وغيرهما. وفيما يلي مقالة مقتطفة من هذا الكتاب الجديد تلقي الضوء على بعض جوانب عبقرية هذا الفنّان.

سيّد درويش أسطورة... هذا صحيح!
لكن أسطورة سيّد درويش لم تخدم موسيقى سيّد درويش، ولا خدمت الموسيقى العربيّة. لقد اكتفى الناس بالاسطورة، وظنوا أن معرفة عناوينها تُغنيهم عن الحاجة إلى فهم سيّد درويش وحقيقته التاريخيّة، ومكانته المحقّقة في مسار تاريخ الموسيقى العربيّة المعاصرة.
ابتعد عنّا سيّد درويش لأننا أبعدناه عمداً، من شدّة حاجتنا إلى الرمز. ولو سلكنا السلوك التاريخي، سلوك من يحاول معرفة الحقيقة، لأحسسنا قطعاً أنه أدنى إلينا من حبل الوريد، ولسمعنا أغنياته بدل أن نتحدّث عنها، ولدرسنا نتاجه وصنّفناه وبوّبناه، بدل أن نحفظ عنه أقوالاً مأثورة من هنا وهناك.

تركّز نتاج الشيخ سيّد درويش، في سنواته السبع التي أمضى معظمها في القاهرة قبل وفاته (وهي أعظم سنواته إنتاجاً) في أربعة أنواع موسيقيّة على الخصوص، هي: الموشّح، والدور، والطقطوقة، والأغنية المسرحيّة.

ويلاحَظ في هذا أنه أعرض إعراضاً تاماً أو شبه تام، عن أربعة أنواع موسيقية عربيّة، هي: القصيدة، والموال، والمونولوغ، والمعزوفة. وإذا لاحظنا أن المونولوغ لم يكن أيام الشيخ سيّد قد دخل واستقرّ في الموسيقى العربيّة (إذ رسّخه في أواخر العشرينيات محمّد القصبجي ومحمّد عبد الوهّاب) إلا أن الشيخ له أغنية مسرحيّة (والله تستاهل يا قلبي، من مسرحيّة: راحت عليك، 1920) هي أشبه ما تكون بالمونولوغ الذي أخذ يولَد في عز ازدهار المسرح الغنائي المصري، بعد الشيخ سلامة حجازي. وإذا أحصينا الأنواع التي طرقها الشيخ سيّد وتلك التي أعرض عنها، لوجدنا أن الموشّح (17 موشّحاً) والدور (10 أدوار) والطقطوقة (66 طقطوقة)، هي من الأنواع الموسيقيّة العربيّة التي يغلب عليها ابتغاء الطرب والتطريب. فلا يغلب التعبير التصويري والتمثيلي، إلا في الأغنية المسرحيّة. يُضاف إلى هذا أن موشّحات الشيخ سيّد (منها: يا شادي الألحان، وسلّ فينا اللحظ، ويا عذيب المرشف، ويا ترى بعد البعاد)، وطقاطيقه (ومنها: يا ناس أنا مُت ف حبي، وخفيف الروح، وحرّج عليّ بابا، وزوروني كل سنة مرة، وسالمة يا سلامة، وأهو ده اللي صار، ويا بلح زغلول، ويا عزيز عيني)، وخصوصاً أدواره (ياللي قوامك يعجبني، والحبيب للهجر مايل، وعواطفك دي أشهر من نار، وأنا عشقت، وأنا هويت وانتهيت، وضيّعت مستقبل حياتي، على الأخص) تنضح بروح الطرب والتطريب، بما يجعلها من أعظم أغنيات الطرب في القرن العشرين.

ومع هذا اتّخذ بعض شتّامي الموسيقى العربيّة الكلاسيكيّة موسيقى الشيخ سيّد المسرحيّة، ليزعموا أنه احتقر الطرب والتطريب، وألغاه من الموسيقى العربيّة.

وليس هذا تحريفاً لرأي الشيخ سيّد فقط، بل انه مناقض ومعاكس لرأيه، إذ كان هذا الفنان التاريخي حين يختلي إلى نفسه، أو إلى رفاقه المقرّبين، ويمسك العود ليغنّي، إنما كان يغنّي من تلك الأدوار المطربة، التي نسجها على شكل أدوار عبده الحامولي ومحمّد عثمان. فإذا طالبه بعضهم بغناء شيء من أغنياته المسرحيّة، كان يقول: "الذي يريد سماع أغنيات المسرح، فليذهب إلى المسرح، أما هذه فهي لي".

وليس هذا مقام المفاضلة بين الغناء المطرب وغيره، ولا هو مجال القول بالعقد النفسيّة وعقد النقص، حيال الفنون الأجنبيّة، التي تفتقر إلى عنصر الطرب العربي الخاص، أو ما شابه من كلام المساجلات.

إلا أنه لا يَسُوغ لكل من لا يستهويه الطرب في الغناء العربي، أن ينبش قبر الشيخ سيّد ويستدعيه إلى الشهادة، ويُشهّده بقول لم يقله ورأي لم يره. فالشيخ سيّد أدخل فعلاً عنصر الحياة والبساطة في الكثير من ألحانه، لكنه في الوقت نفسه، بلغ في أعظم أغنياته بالطرب، إلى ذرى عظيمة. وفي إمكان أنصار الطرب وأخصامه أن يفاضلوا ويفضّلوا ما شاؤوا من المفاضلة والتفضيل، لكنهم لا يستطيعون اتخاذ الشيخ سيّد درويش شاهداً، يضعون في فمه الكلمات التي لم يقلها.

العلم والموسيقى
عنوان آخر من عناوين سيّد درويش، حجب عنّا رؤية هذا العبقري الكبير على حقيقته، إنها مسألة الموسيقى وعلوم الموسيقى. فقال القائلون إنه كان يهم بالسفر في أواخر حياته إلى إيطاليا، ليتعلّم الموسيقى. فداهمه الموت في الخامس عشر من أيلول 1923. ويزيد القائلون: لو قُيِّض له العمر الطويل، ولو كان له ما أراد من علم موسيقي في إيطاليا، لتبدّل تاريخ الموسيقى العربيّة. وقد يزيد البعض: ولدخلت الأوبرا والسمفونيّة في الموسيقى العربيّة.

وفي رأيي أن هذه الافتراضات غالباً ما تُخفي وراءها أحلاماً شبه مريضة، لأسباب عدّة:

- أولها أن عبقريّة سيّد درويش كانت بحاجة، مثل أي عبقريّة أخرى، إلى احتكاك حضاري ما لتُبدي كل كنوزها وتستكشف كل آفاقها. لكن الشيخ سيّد كان، قبل مماته، ومن غير سفر إلى إيطاليا، أبدى الكثير من جوانب نبوغه وعلمه في تجديد الموسيقى العربيّة.

- ثانيها أن الشيخ سيّد كان اطّلع على الكثير من علوم الغرب الموسيقيّة وهو لما يزل في مصر. فاستمع إلى أوبرا توسكا، وأوبرا مدام باترفلاي، لبوتشيني، وأوبرا البلياتشو لليونكافالو، وأوبرات كثيرة غيرها لكبار موسيقيي إيطاليا، في تياترو الكورسال وغيره من المسارح التي كانت تستقدم فرق الأوبرا الإيطاليّة.

- ثالثها أن الشيخ سيّد كان قد بدأ يتعلّم في مصر أصول كتابة النوتة، حتى أنه خاض سجالاً صحافياً حامياً مع منصور عوض، على صفحات "المقطّم" وغيرها، في شأن أول من ابتكر أسلوب تدوين "ربع الصوت" في الموسيقى العربيّة والموسيقى التركيّة. كذلك أحاط نفسه بموسيقيّين عالِمين بأصول التدوين والتوزيع الموسيقي والعلوم الموسيقيّة المساعدة، مثل مسيو كاسيو وجميل عويس وغيرهما (راجع في هذا كتابنا: السبعة الكبار في الموسيقى العربية المعاصرة، بيروت، دار العلم للملايين، 1987).

وأقول: العلوم الموسيقيّة المساعدة، لأن الأصل في الموسيقى: الخيال الموسيقي (أي الإلهام والقدرة على إنشاء الألحان) و: الإحساس الموسيقي (أي القدرة على التعبير عن الوجدان والعاطفة من خلال الموسيقى). وفي هذين العنصرين الأساسيين، كان الشيخ سيّد متفوّقا تفوّقاً حاسماً لا مجال لمزيد عليه، لا في إيطالية ولا في غيرها. ولو قُيِّض العمر له ليتعلّم في إيطالية، لاستزاد في العلوم الموسيقية المساعدة على الأرجح، لأن الأصل لم يكن يُعوِزه أبداً.
إن بعض من يتحدّث عن الشيخ سيّد، لا يتحدّث في معرض التأريخ له ولفنّه، بل في معرض الدعوة لوجهة سياسيّة معيّنة. وليس من عيب في الدعوة لوجهة سياسيّة. لكن محاولة استخدام الشيخ سيّد في هذه المهمة، شوّهت حقيقته، وضاعفت صعوبة معرفته على حقيقته. وحاول بعض محترفي الغناء السياسي في السبعينيّات والثمانينيّات (في مصر ولبنان خصوصاً) أن ينتسبوا إلى الشيخ سيّد، بل كادوا أن ينسبوه إلى أنفسهم وإلى تيّارهم السياسيّ، في محاولة لتحسين سمعة فنّهم المتواضع لدى الناس. فقالوا إن فن الشيخ سيّد كان عظيماً، لأنه كان فناً وطنياً، وليس هذا صحيحاً بالطبع. فالقيمة الفنيّة الخالصة في أغنياته راقية جداً. وكسبت القضيّة الوطنيّة من فن الشيخ سيّد، فيما تكسّب الفنانون المتواضعون من القضيّة الوطنيّة، ولذا حاولوا القول إن الوجهة السياسيّة في الفن هي عنصر تقويمها الأول.

عبد الوهّاب الدرويشي
لم يأخذ محمّد عبد الوهّاب عن سيّد درويش في كل شيء. فتطوير القصيدة العربيّة جزء خطير من تراث عبد الوهّاب وأثره التاريخي في الموسيقى العربية . والشيخ سيّد لم يقرب فن القصيدة العربيّة إطلاقاً، إلا في مسرحيّة عبد الرحمن الناصر (1921) وعدد آخر من الأغنيات التي تصنَّف في نوع "المارش" (النشيد) الوطني، لا القصيدة. وقل كذا في تطوير عبد الوهاب الخطير للموّال الذي لم يقل فيه الشيخ سيّد أي شيء.

إلا أن عبد الوهّاب تتلمذ على الشيخ سيّد درويش، في التعبير والتصوير والتمثيل الموسيقي، فأسس الأغنية السينمائية، بعدما نهل من أستاذه واستوعب نتاجه في الأغنية المسرحيّة. وتدرّج عبد الوهّاب في كل مراتب التصوير والتعبير، من تصوير الشكل ("يبص فوقه ويبص تحته"، في أغنية "بلبل حيران" الشجيّة، 1930) إلى التمثيل الاجتماعي ("تعالَ من فضلك خدنا" بلهجة الآمر المتعالي، ثم "رد الفلايكي بصوت ملايكي" بتعبير محبب، في أغنية "النيل نجاشي"، 1933) إلى ذروة في التعبير الموسيقي التمثيلي العربي ("قيس وليلى"، من فيلم "يوم سعيد"، 1939).

والحق أن عبد الوهّاب لم يتأثر بالشيخ سيّد في ألحانه فقط بل في غنائه أيضاً:
- في مطلع أغنية سيّد درويش: مين زيي مين أسعد مني (من مسرحية: العشرة الطيبة، 1920) يبدو الكثير من أسلوب غناء محمّد عبد الوهّاب.

- في: الآه، من جملة: عذبني أنا راضي بحكمك، في أغنية عبد الوهّاب: عايزك تصدّ وتهجرني (1927)، يذكّرك بأسلوب الشيخ سيّد في غناء الآه.

- في مطلع: الصدّ طال وانتِ مش راضية (1927)، غناء شبيه بغناء الشيخ سيّد وصوته.
- في أغنية: أخاف عليك من نجوى العيون (1927) يلاحَظ أن وضع حَنجرة محمّد عبد الوهّاب، يُصدر رخامة، من نوع رخامة صوت الشيخ سيّد، على الخصوص في المساحات الصوتية دون المتوسطة.

فإذا أضفنا إلى هذه الأمثلة سلوك عبد الوهّاب التصويري والتعبيري فيما ذكرنا من ألحانه، وفي محاورة: عيني بترفّ وراسي بتلفّ، التمثيليّة الخطيرة (نجيب الريحاني وليلى مراد، في فيلم: غزل البنات، 1949)، وغيرها كثير في تراث عبد الوهّاب الفاحش الثراء، لأمكن القول بلا تردّد، إن عبد الوهّاب فرع نبت من جذع سيّد درويش، وإن أضحى فيما بعد شجرة وارفة، ظللت القرن العشرين كله.

الحقيقة لا الأسطورة
هل أماطت هذه السطور السابقة بعضاً من الغمام الذي يريد أن يحيط سيّد درويش بالغموض؟ إن هذا من أهم أغراض هذا الإسهام المتواضع. لكن سطوراً قليلة لا تكفي لكشف كل جوانب عبقريّة سيّد درويش، وإسقاط هالة الأسطورة والرمز عنه. ولا شك في أن على الدارسين، في سنين طويلة آتية، أن ينصرفوا إلى دراسة تراث الشيخ سيّد درويش، بالتمحيص العلمي، حتى نبلغ إلى يوم تكون فيه أعماله مبوّبة ومصنّفة ومرقّمة، ومتاحاً سماعها لكل دارس وموسيقي ومغن ومستمع عربي.

وعسى أن يكون الثبتان اللذان حققتهما ونشرتهما في كتابي هذا، مع ملاحق أخرى، مفيدين في هذا الشأن. ففي الثبت الأول، مسرحيّات الشيخ سيّد الغنائية، وتاريخ يوم العرض الأول لكل مسرحيّة. وفي الثبت الثاني، كل ما خلّفه سيّد درويش من أغنيات مسجّلة على اسطوانات حُفِظت لنا، وذكر المسرحية التي ظهرت فيها الأغنيات. وفي هذين الثبتين ما يمكّن الباحثين من ترتيب معظم تراث الشيخ سيّد ترتيباً زمنياً دقيقاً، يتيح فيما بعد، إن شاء الله، تحليل تطوّر موسيقى الشيخ سيّد، وتبدّل أساليب التلحين والتعبير والغناء لديه، إذا ما بُذل الجهد اللازم في هذا المضمار.


الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium