توفي كنزابورو أُوِه في 3 آذار الجاري وأُعلِن الخبر في 13 منه. كان في العاشرة من عمره عندما استسلمت اليابان عام 1945. كان العالمُ غارقاً في الخوف وكان يُمضي الوقت في جوف الغابة المحيطة بمنزل العائلة الواقع في "قرية نائية في عمق الوادي في جزيرة شيكوكو". هناك، قرأ "مغامرات هكلبيري فين" و"رحلة نيلـز هولغرسون الرائعة عبر السويد". كان زمن تهافت الغطرسة العسكريّة وسط أهوال انفجارَين نوويَّـين حين ترسَّب في روح أُوِه شعورُ الحياة الحرَّة في عالم الواقع عبر صوت العصافير بعيداً عن صوت البشر. "كان هذا هو مستواي الأوَّل في القراءة"، كما ذكر بعد سنوات طويلة. أمَّا المستوى الثاني، فهو في انطباعات تآخي نيلز مع الإوَزّ وكلامه الفرِح مع أهله حين عودته - وهو كلام شعر أُوِه أنَّه منطلق من عين ذاتِه- حين قال لهم: "لقد كبرت، أنا رجل من جديد".
عرف الكاتبُ الشابُّ بعد ذلك متاهات العصر. الإباحة التي لا تُحرِّر. العدميَّة. الوجوديَّة. النصوص التي كتبها انبثـقـت من مواقـفه ومشاعره الثابتة: هشاشة الإنسان والنـفور من العسكريتاريا وعنفـوانها المُحبِط. هكذا، توالت الانتقادات من اليمين ومن اليسار. ثـمَّ كان من نتائج زواجه تحـقُّق نبوءتَين تركتا في روحِه كلّ ما سوف يكون عليه حتّى الرَّمق الأخـير: القدرة على فهم لغـة العصافير عبر الموسيقى التي قدر على عزفها ابنُه الذي وُلِد مصاباً بتـلـفٍ في دماغه، والثانية ما منحتْه إيَّاه المرأةُ (زوجته) من مشاعر: "ارتبطتُ بصداقـةٍ مع أُوزَّة بـرِّيـَّة، وطرتُ معها بعيداً".
بات هيكاري (ابنُه) حاضراً في دوافع الكتابة على الدوام. في كلّ حال، بات شغله الشاغل في الحياة. المعانـاة الإنسانيَّة العميقة إزاء عصر تنشب فيه حرائق حقول الكلام مقابل الروبوت، ليس الآلي وحسب وإنّما البشريّ بشكلٍ مخصوص.
نال كنزابورو أوي جائزة نوبل في الآداب عام 1994، واستحضر في خطاب حفل تسلّمه الجائزة ذِكر ياسوناري كاواباتا، الحائز قبله الجائزة عام 1968. ذكَّر أُوِه بما قاله كاواباتا آنذاك: "أنـا، من اليابان الجميلة". وعلَّق بما يشبه تلمُّس الجراح الأليمة ليوضح ما وضعه عنواناً لخطابه: "أنـا، من اليابـان الغامضة"، بمعنى الالتباس والصعوبة الفائقة في رؤية صورتها الحقيقيَّة. وعبَّر موضحاً: "في رأيي، اليابان الحديثة، التي أنجزت مئة وعشرين عاما من التحديث منذ إعادة فتحها، ممزَّقة بشكل أساسي بين قطبين مـبـهـمَين. علاوة على ذلك، فإن الروائي الذي أنا عليه قد تضرَّر بشدَّة من الجروح بسبب هذا الإبهام بالذات".
قيل عن كنزابورو أُوِه اليوم إنَّه "الكاتب الأكثر ولوجاً في أعماق العصر". بل في الألم الذي يلفّ به وجه الأرض. ويمكن التحديق بصورة الألم هذا عبر كلماته، بل النبع الذي كانت تنبثق منه: "يواصل هيكاري مؤلفاته، لم يستطع الأب الذي أنا عليه إلا أن يسمع في موسيقاه صوت روحه المظلمة التي تنبعث منها صرخات وتنهدات... سمحتْ لي هذه الحقيقة بالذات أن أكتشف، في أعماق قلبه، كتلة من الحزن المظلم الذي لم تتمكَّن الكلمات من فهمه حتى ذلك الحين... مع ذلك، فإن صوت الروح المظلمة هذا الذي تنبعث منه صرخات وتنهُّدات، هو صوتٌ جميل، ومن الواضح أن فعلَ سماعه في الموسيقى خفَّـف وشفى كتلة الحزن المظلم".
كنزابورو أُوِه رجُل نبيل راسِخٌ في إنسانيَّته، بمعنى أنَّه ظلَّ وفـيّاً لِما يرقى بها إلى مصاف كبار المثـقّـفـين الأصائل. وله مع إدوارد سعيد قصَّة لا بدَّ من استعادتها:
بدت جائزة نوبل بعد عام من فوزه بها حملا ثقيلا فوق كاهل الكاتب الياباني الكبير كنزابورو أُوِه. كان قد قرّر أن يتوقف عن الكتابة مكتفياً بالقراءة والتأمل: "كنتُ أشعر بأن أعمالي قد ابتعدت عن مبادئي ومقاصدي الأساسية، وبأني قد شردت في متاهة صوفية - ذاتية الى الحدّ الذي خُيّل اليّ فيه أنَّ رواياتي سوف تنتهي- اذا ما بقيت على هذا النحو- الى محض اعترافات دينية منحرفة".
كان أُوِه قد فقد "النوطة الملائمة تماماً" التي كان من شأنها انتشاله من ميله المفرط الى الحوارات الذاتية الآخذة به الى متاهة، في حضرة مرشده الروحي تاكمي تسو. كان هذا المرشد يوحي لأُوه اتجاهاً محدداً، فيستعيد ايقاعه الداخلي الصحيح. والآن، بعد موت المرشد، وجد الروائي نفسه إزاء حائط مسدود.
يعترف أُوِه - بشجاعة كاتب عظيم - أنَّ القراءة الأولى التي أنجزها في العام 1995 لكتاب "الامبريالية والثقافة" لإدوارد سعيد، منحته "الوثبة الضرورية" لقيامته روائياً من جديد. فعَل أُوِه ذلك عبر رسالة وجهها الى "عزيزي إدوارد..." لمناسبة صدور كتاب آخر له مترجم الى اللغة اليابانية ضمَّ بين دفّتيه مجموعة من المقالات كتبها سعيد بعد الحادي عشر من أيلول عام 2001 تحت عنوان "الحرب والبروباغندا"، وكان الكتاب الاول المذكور صدر باليابانية منذ ما يقارب العام.
كان أُوِه باحثاً بأسًى عن وسيلة يردم بها الفجوة التي ولّدها غياب المرشد. تفرّس في مرآة نصّ سعيد ليندفع خارج أسوار ذاته. تنبَّهَ إلى أنَّه كان قد أدار ظهره للوقائع البحتة والتاريخ، فتوغَّـل آنذاك بعيداً في النقد الذاتي. وساعده ذلك في النفاذ الى الفسحة حيث استطاع أن يتَّخذ القرار بالمبادرة الى انطلاقة جديدة في عمله الروائي. لم يقتصر الأمر على التقنيات السردية، بل ذهب الأثر بعيداً الى حدّ طاول فيه معنى المثقف كائناً فاعلاً، والنمط الاخلاقي الذي ينتهجه محافظاً على استقلاليته ومبقياً في آن واحد صلته المباشرة بمجتمعه.
قام أُوِه بعد خمس سنوات بإعادة قراءة كتاب سعيد تحت وطأة رغبة اكتشافه في اللغة الام. تبدّت له الحقيقة هذه المرة أكثر جلاء وشمولية مما كان يعتقد: "لقد ترك اليابانيون أنفسهم وبملء ارادتهم فريسة تبتلعها الامبريالية الثقافية - بمعنى ذوبان الهوية الثقافية والوطنية - التي تسيطر عليها الولايات المتحدة". وتمنَّى أُوِه أن يفكّر الجيل اليابانيّ الشاب بـ"الآخرين" وليس فقط بالـ"نحن"، وأن يستنبط من "مؤلَّفاتك" (مخاطباً سعيد) الحكمة والشجاعة الضروريتين لتفادي سيطرة المناخ السياسي - الثقافي المهيمن على أرواحهم.