النهار

معارك خاسرة لنغم حيدر: حلبات صراع غير مكتملة...
نبيل مملوك
المصدر: "النهار"
معارك خاسرة لنغم حيدر: حلبات صراع غير مكتملة...
الكاتبة السوريّة نغم حيدر وغلاف "معارك خاسرة".
A+   A-
ينطلق رولان بارت في حديثه عن الزمن من خلال المكان والجغرافيا تحديدًا ليصفه بالأرض الغريبة. وإذا أردنا، ولو بشكل سطحيّ وعجول، تأويل ما خلص إليه الناقد الفرنسيّ فإننا أمام احتمال يقول بأنّ الزمن هو أرض متغيّرة؛ وكلّ متحوّل أو متغيّر هو غريب مبدئيًّا؛ ولطالما انعكست الغربة أو الغرابة أو الاغتراب أو التغريبة على النصّ العربيّ بمختلف الأشكال والأوزان المعنويّة والأبعاد الاجتماعيّة، وما زالت تنعكس حديثًا، بدءًا من طواحين بيروت لتوفيق عواد، وباب الشمس لـ إلياس خوري، وشريد المنازل لجبور الدويهي، وأميركا لربيع جابر، و"لم يصلِّ عليهم أحد" لخالد خليفة، والقائمة تطول وصولاً إلى تجربة نغم حيدر (1987-...)، التي أخرجتْ للمرة الثالثة نصًّا روائيًّا جديدًا تحت عنوان "معارك خاسرة" (دار نوفل، هاشيت أنطوان - طبعة أولى 2022) مختلفًا عن النصوص المنضوية تحت جسد الحرب السوريّة، عائدة إلى البدايات، مطلقةً من خلال ثلاثة فصول مبنىً حكائيًّا جديدًا قائمًا على اللاترابط والترابط في آنٍ...

الشخصيّة وصراعاتها بين القصصيّة الواقعيّة والتأويلات الروائيّة

وزعّت حيدر شخصيّاتها إذن على ثلاثة فصول، مانحة المرأة القدرة على الثورة والانخراط في معترك التغيير؛ وهذا نصف الإنجاز، أمّا نصفه الآخر فطرح ظاهرة اجتماعيّة قديمة جديدة تتمثل بصراع الأبوّة والبنّوة.
واللافت أنّ حيدر في فصولها الثلاثة استغنت عن التراجيديا، واستبدلتها بالمَسرحة التي رافقت المتلقّي من مطلع الرواية حتى آخر سطر من فصلها الأخير، وحين نتحدّث عن المسرح نتحدّث عن الإشارات أو الدلالات أو الرموز أو الإضمار: "أعرف وجوه أمّي كلّها لكنّ الوجه الذي حاصرني في ذلك اليوم كان أكثرها بدائيّة"(ص.5)، "لم تتوقّف عن صنع الحلوى يومًا وكأنّها أرادت إقناعي بأن العالم مكان جميل يعبق برائحة السكّر" (ص.8).
حاولت نغم حيدر أن تقول الكثير من خلال شخصيّة هدهد أو هدى الأم التي ترفض الثورة والاعتراض ككلّ الأمهات والآباء في سبيل السلام. ترفض أن تكون ميّ الابنة صاحبة قرار لكونها ما زالت طفلة في نظرها. هذه الفكرة النواة انطلاقًا من الشواهد التي أسلفنا ذكرها. لكن لمْ تحاول الكاتبة التحريض على التساؤل أو إضافة عنصر مبدّل يجرّنا نحو تأويل السلوكيّات والتصرّفات التي يتقاذفها الطرف المربِّي والطرف المُربَّى. لم يكن الحدث المبدّل سوى الخروج من البيت ومزيدًا من الشرخ الأسريّ، والكثير من الصيغ الخبريّة المتوقّعة "إنها تخاف عليكِ من السجن، لكنّها حوّلت البيت إلى زنزانة حقيقيّة "(ص.30 )، "هجمت عليّ، خدشتْ رقبتي بأظافرها الطويلة، شدّت شعري..." (ص.40).
استخدام الحقل المعجميّ الخاصّ بالعنف وتوظيفه أتى موفّقًا في هذه الوحدة السرديّة لكون حيدر أوصلت بقصد أو عن غير قصد صورة للصراع بين ميّ الصحافية الثائرة والكادحة والمناضلة مع الشعب المقهور المنتفض، وبين يمنى الأرستقراطيّة الماديّة التي ترضي أمّها لمجرّد أنّها تحافظ على جمالها وزيف حياتها الورديّة "بمعاطفها الفخمة التي تشتريها من المتجر التركيّ، وخواتمها ذات الألماس البرّاق..."(ص.41 ).

إنّ معركة ميّ كانت بالمبدأ خاسرة مع مجتمع لا يفهمها، ومع أسرة تساعدها على الابتعاد. لكنّها خرجت من الطوق الروائيّ، وبقيت قصّة على اعتبارها غير مرتبطة بقصص لاحقة، لا من قريب ولا من بعيد، خاصّة أنّها انتهت بأفقٍ مفتوح تمثّل باعتقال ميّ ربما بموافقة "هدهد" أو عدمه.
لم تكن غاية الكاتبة فقط تصوير الصّراع بين الموروث والمتحوّل عنه بل إظهار الحرب الحقيقيّة مع الذات، والقلق المصحوب بالخوف، الذي انتهى إلى تنفيذ رغبة الأب بالإنجاب بالرغم من تخيّل العراك، وكأنّنا أمام طرح للمشكلات فقط من دون حلّها، أمام عقوبات على ذنوب لم ترتكب...
تركت نغم حيدر النهاية مغلقة، مغلقة بلا غضب الأب على ابنه. لم تتمرّد من خلال بهاء الدين الفنّان بالرغم من تواتر الصراع بين ثقافتي الموت والحياة في آخر الفصل الثاني...

من المعارك الخارجيّة نحو المعارك الأحاديّة

انتقلت صاحبة "أعياد الشتاء" (نوفل، 2018) من قصّة إلى قصّة، من حدث إلى آخر، كالقفز من أعلى درجة نحو آخرها، قفزة بموضوعتها البعيدة التي تعتلجها تمزّقات أسريّة ليست بعيدة عن القصة السّابقة، رسمت بهدوء ونعومة، وكأنّها بداية لرواية جديدة "نقشت الحرف على الرّخام فتحوّل إلى إله"(ص.53 ). شعريّة عالية جعلت التصوير يطغى على التركيب، والإبداعيّة تدفعنا إلى البحث عن قصديّة لن يعثر عليها إلا حين نكتشف أنّنا أمام قصّة جديدة غريبة ومختلفة عن قصة ميّ وهدهد والأمن وربيع دمشق "منذ طفولتي وأنا أعمل على نحت الشواهد..." (ص.53 )؛ الشواهد التي كادت تكون لوحات فنيّة تبعث الحياة لولا تعنّت والد بهاء الدين وإصراره على ثقافة الموت الباعثة للمال "كثيرًا ما ستقع ما طلبتُ منه أن أنحت رسمًا ما، أو زخارف بسيطة. لكنّه كان يرفض وينهرني. ستقع في الإثم يا بهاء الدين" ( ص.55).
حلقة سرديّة مهمّة طرحتها نغم في نصّها مجدّدًا أمام عامل مساعد وفقًا لغريماس، وعامل معاكس المجتمع والأهل، يعاكسان رغبة بهاء الدين في الإبداع، يرغمانه على التمسّك بالرّوتين كيلا يكفر بدءًا من رقابة الأب "أكلّ شيء على ما يرام/ نعم يا أبي كما تحبّ وترضى" (ص.71 )، وصولاً إلى التحكّم بالحياة العاطفية "أنجب ولدًا يا بهاء الدين كي أرضى عليك، لقد حان الوقت..." (ص.73 )، قابله تمرّد خافت من الابن أمام الأم الحضن الدافىء" حتى في غياب أبي تسير الأمور كما يريد..."(ص 74).

فخ الحلول أو رغبة القدر؟!

قفزة أخرى ارتجلتها الكاتبة السوريّة نحو الجيل الأرعن بحكم سنّه، نحو محاولة حلّ الأمور بالعضلات "أنا أثمن العضلات، وهي مركز القوّة لديّ ومركز الاهتمام" (ص.84 ). لكن حيدر خلقت منعطفًا مغايرًا للفصلين، فقد جعلت الشخصيّة المستمرّ تكوينها الاجتماعي "فاضل" لاعب البلياردو العشرينيّ ضحيّة ذاته وجانٍ عليها "بعدما شربنا كثيرًا..."(ص.113)، "وأردف آخر أنّ المَضافة تبدو مكانًا مثاليًا لمضاجعة البنات الجميلات" (ص.113 ). الرعونة في سبيل الرعونة، الفراغ، أي أخذتنا نغم حيدر من تيار الالتزام الأدبيّ بقضيّة تمثلت في القصتين السّابقتين إلى ما يُشبه البرناسيّة من خلال قصة فاضل وأبيه البعيد، الغريب بماضيه، لنعود بعدها إلى القضيّة التي تمحور حولها الفصل. لكن حيدر وقعت في الفخّ، فخّ إبداع الحلّ لقصّة، وترك القصتين السّابقتين مفتوحتين على جراح شخصيّاتها وضياعها وتحوّلاتها. وهنا السؤال للكاتبة: هل المقصود أنّ المشكلات "الصغيرة" كمشكلة سهيل وابنه فاضل، التي انتهت بمغامرة على مختلف الصعد "كانت المرة الأولى التي نتشارك فيها أنا وسهيل. مغامرة معًا"(ص.127 ) أمّ مشكلات ميّ وبهاء الدين التي تفوق الأفراد والجماعات والمجتمع ككلّ. وقعت نغم حيدر في فخّ الحلّ، لكنها وضعت القصص الثلاث تحت عنوان واحد متماسك، صراع الأجيال اللانهائيّ.

تكتب نغم حيدر نصّها بارتجال هادىء، تتوسّل إيصال دفء الشخصيّة بعيدًا عن الدراما الثقيلة، والتراجيديا التي جعلت الحرب chroma مستخدمة الزمن والمكان المفتوح "ساحات ربيع دمشق" لطرح الصراعات التي تؤجّل نفسها. لكنّها قدّمت كلّ الخسارات على أنّها حلوة تمامًا، كما عمدت شخصيّة "هدهد" إلى تقديم خساراتها مع ميّ والعمر والمجتمع...على شكل قالب حلوى تضمر حلاوته الكثير من المرارة.

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium