النهار

قراءة في ديوان الشاعرة لوركا سبيتي الموسوم بعنوان "ذهان"
المصدر: "النهار"
قراءة في ديوان الشاعرة لوركا سبيتي الموسوم بعنوان "ذهان"
"ذهان".
A+   A-
لطيفة الحاج قديح*


جميلة ومتألقة كانت في حفل توقيع "ذهان" في معرض بيروت العربي والدولي للكتاب 64، وإلى جانبها من زاد الحفل تألّقاً وتوهّجاً، أقصد شريكتها في التوقيع، الفنانة التشكيلية ماجدة نصرالدين، وهي واحدة من أفضل الرسامات اللبنانيات من جيل التسعينات والتي أبدعت أكثر من أربع وعشرين لوحة ضمّها الديوان وانتشرت على صفحاته كما تنتشر زهرات السكوكع في حقولنا الربيعية الخضراء ...

والطفلة التي أطلق عليها والداها اسم "لوركا" قبل ثلاث وأربعين سنة، تيمّناً بالشاعر العالمي المبدع صاحب جائزة نوبل للآداب، لم تخيّب ظن أبيها الذي ورثت عنه إبداعه الشعري بل تفوّقت عليه، ناهجة نهج الشاعر "الأصيل".

وهي لم تكتفِ بكونها شاعرة، بل تعدّته إلى كتابة قصص الأطفال فتربعت على عرش عشرة مؤلفات ما بين الشعر والنثر وتلك القصص، والأخيرة كما هو معلوم من أصعب أنواع الفنون...
وفي آخر اصداراتها الصادر عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر في خمس وتسعين صفحة، تُفاجِئنا لوركا سبيتي بعنوان مجموعتها "ذهان". ومن منا لا يعرف أنّه، أي "الذهان"، من الأمراض العقلية التي قد تتخذ أشكالا مختلفة تبعاً لسياق حياة الشخص المصاب، حيث يُحدِث له تغييراً سلبياً في كل من التفكير والشعور والإحساس بالذات والتفاعل الاجتماعي مع الآخرين.

ليس هذا فحسب، فقد سبق للوركا أن أصدرت ديواناً يحمل عنوان "ليس سوى الأرق" أعقبه آخر بعنوان "مصحّ عقلي" لتصدر بعده "هذا كله قبلك" ثم بعد سنوات ديوانها الجديد...
وإن كان "الإناء ينضح بما فيه" كما يقول المثل الشعبي، حيث الإنسان كالإناء إذا ما امتلأ بمشاعر القلق والتوتر والأرق، فلا بدّ له من أن يفيض بالمشاعر السلبية التي يغصّ بها الديوان ... فمن أين جاءت تلك المشاعر لتسكن في أعماق إعلامية ذكية جميلة ومثقفة، فبدت كالثريا تتوهّج شباباً ونضارة وألقاً؟

وما علاقة ما كتبته لوركا بهذا المرض، الذي أطلق عليه المختصون صفة سرطان الدماغ؟
ولماذا أطلقت اسمه على مجموعتها الشعرية؟

وللإجابة، لا بد لنا من الدخول إلى النص والغوص في أحشائه، وتفتيق أغشيته...

فلندخل إذن من العتبة حيث يطالعنا الإهداء الذي اُستهلّ به الديوان: إلى "سارة كين"، وهي ليست سوى المخرجة المسرحية البريطانية التي تناولت أعمالها الحبّ التعويضي، وهو محاولة للحصول على الحبّ بأي طريقة ممكنة، عدا عن إشباع الرغبة الجنسية ومهادنة نوبات الألم والإحساس بالموت للتعويض عن المشاعر الجيّاشة التي تملأ قلب صاحبها، والشعور بالموت والعدم على حد سواء ... فالعقل الباطن هنا يتغذّى على الفانتازيا والتخيّلات والعيش في الوهم والخيال...

فلماذا هذا الإهداء؟
وتطالعنا أعراض المرض في بدايات النص حيث "الوجوه التي خلعت خمار الفرح" بتوليفة جميلة من الخمري والأزرق تطفي بظلالها على "المرأة التي نسيت كفّيها على حبل الغسيل..." وتلك "التي تعوّدت الخروج برفقة أبوابها المغلقة..."(ص6 - 8)

ونغوص أكثر في "ذهان" لوركا لنكتشف العلاقة الحميمة بينها وبين الأشجار، حيث يتكرّر الحديث عن الشجر في غير قصيدة ...

"إن أشجاراً خضراً نبتت مكان الأبواب مذ أقمت في الغيمة المجاورة... (ص2 )
يا لروعة التعبير، فالغيمة سوف تتحول إلى مطر، لتسقي الأشجار التي يشتدّ اخضرارها...
ونسمع ذلك الحوار بين الفأس والشجرة (ص 19): "أنا شجرة خافت يوماً من لمعة فأس ... فصارت فأساً

أنا فأس ستقطع أشجارك ذات يوم!"

هي تلك الحلقة التي تدور وتدور وتدور إلى ما لا نهاية...

ودعونا نغوص أكثر في الديوان لنمتّع نظرنا في لوحة "نساء في امرأة" وبالقصيدة المرافقة لها، فنقرأ: (ص 12- 13) "ماذا بوسع القصائد حين ينتحر شاعرها؟ تتحرّر".

ويأخذنا "ذهان" سبيتي في رحلة من الجمال والدهشة لنصل الى الصفحة 23 حيث الرسامة ماجدة تعرض لوحة "وعلّقتك روحي"، بينما تقول الشاعرة: "أعيش حياة ليست لي ...استعرتها من امرأة ملّت منها... وكانت سترميها من أعلى الجسر إلى نهر عميق لولا أنني أمسكتها في اللحظة المناسبة ... أنا الآن أعيش الحياة المرمية..."(ص 23)

يا لها من شذرات ساحرة تضاجع الألم والقلق والموت...

ويا للتناغم بين اللوحات والقصائد، وكأن اللوحة تحكي القصيدة، والقصيدة توحي باللوحة؟
ونتابع الغوص لنصل إلى مائية "نهاية الطريق" حيث "الأثر الخفي للوشوشات" (ص 26-27)
"كل الشاعرات ينتحرن بطريقة أو بأخرى ... يصلن إلى قمم الجمال ... يناديهن القعر..."

منتهى الإبداع يكمن في هذه القصيدة (القصة) المكتملة العناصر من المقدمة إلى العقدة إلى الحل ... تلك القصة تحكيها لوركا في أسطر قليلة حيث يتكثف المعنى ليصبح نبيذا معتقاً...

يناديني الحبّ والحنين والعاطفة الجياشة لأتساءل لماذا يا ترى كل هذا القلق والهذيان الإبداعي تفيض به نفس الشاعرة، هل لأن الحبّ قد جافاها في الآونة الأخيرة؟

أوَلا تعوّض الشهرة والنجاح، ومجد الكلمة، وحبّ الناس عن الجنس الآخر...؟

ونصل إلى لوحة "ذهان" تقابلها قصيدة بالعنوان نفسه تقول (ص 88): "صوت يتحدث وحده فيه... وآخر يومىء للآخر ليس موجوداً تماماً... وسيأتي الآخر الأخير... وينهي الحديث بتعليق مشنقة..."

وكأن الشاعرة تعيش في مصحّ عقلي فتنقل لنا صورة حيّة من هناك...

وربما يكمن السر في هذه الكلمات "شاعرة قضت عمرها على مقعد... جلس كثيرون بجانبها... ولم يكن بجانبها أحد... هي والمقعد صارا رماداً"...(ص 28)

فنفهم سر العلاقة بين الذهان وما تعبّر عنه الكاتبة من مشاعر القلق والفراغ العاطفي والاضطراب ...

ولِمَ العجب، فمن يعيش الفراغ العاطفي حتى لو وصل إلى قمة النجاح، وتربّع على عرش المجد... لا يشعر سوى بالقلق والأرق، والسهاد. وقد يحلم بالأكثر، وهل هناك أكثر من جمال العالم الأبدي الذي لا يزول؟

هكذا فعلت المرأة الأكثر جمالا وإغراء وإبداعاً الممثلة الأميركية "مارلين مونرو" والمغنية الفرنسية الذائعة الصيت "داليدا" وغيرهن...

فالحبّ للإنسان حاجة لا بديل عنها ...

وربما أدّت خسارته إلى انكسار القلب وعدم الاستقرار النفسي وفقدان التوازن وقد تصل إلى حد الجنون وربما الانتحار ...


*روائية باحثة وناقدة





اقرأ في النهار Premium