سامي داوود
الطبع هو قدرُ الإنسان..."هيرقليطس"
الإشكالية الثقافية للقسوة
تشغل القسوة مكانة قيمية مفارقة في الكياني الأخلاقي والثقافي لبلادنا، التي تظل توفر للعنف أسباب وجوده وتهيكله مؤسساتياً، فتعززه بالمسوّغات المثبطة لإدانة العنف وتفكيك مغذياته الثقافية. لذلك لم يكن غريباً أن تفتقر المكتبة العربية إلى المؤلفات القابلة للتعويل عليها لمفهمة الابتهال الجماعي بالعنف، في مجتمعات تنكر باستمرار أمراضها المفرطة، من ضمنها القسوة. وقد تعقدت أشكال القسوة بالرقمنة التي اشتغلت كآليّة فصل بين السلوك وحمولته القيمية، بحيث باتت مشابهة لأثر الحرب في تعطيل ردة فعل الناس أمام الانتهاكات التي تجري عبرهم أو أمامهم.
بجعل الأشياء عادية أو تافهة بتعبير آرنيست كاسيرر، لا يتحرك في الإنسان شعوره بالخجل من إجرامه، لتحل الوقاحة محل الرادع الأخلاقي، ويتمادى الفعل العنيف حتى يتجاوز حدوده الوظيفية – كالدفاع عن النفس مثلاً – ليتحول إلى عدوان خبيث بتعبير إريك فروم، يجرّ العنف بداية إلى مستوى اللذة الجنسية، وبعدها إلى قسوة فارغة من كل غاية.
وكإجراء معرفي بديهي، يجب بداية تعريف القسوة، تمييزاً لها وتجنباً لخلطها بالعنف أو بغيرها من المفاهيم المشابهة، كالقوة والسلطة التي سآتي على تمييزها. علماً بأن مفهوم القسوة يتحرك في منطقة معرفية ما بين تخصّصية interdisciplinaire.
لذلك سيكون من العبث تناولها من وجهة نظر جهوية محدودة.
والسؤال الذي أخذ على عاتقه إمكانية العمل التضافري لمختلف الاختصاصات، هو الذي يمكن استخلاصه من العمل الفلسفي المرهف لـ كليمان روسيه "مبدأ القسوة Le Principe de cruauté"، باستدعائه لآليات تحليل هجينة بين المنطق والفلسفة، واقتراح فكرة "عدم كفاية الواقع" في حد ذاته لتفسير ما يكون عليه هذا الواقع، إذ حتى يكون لدينا فهمٌ لواقعة ما، لا بدّ من توفر معارف متمّمة للوقائع لاستنتاج بعض حقائقها. مسعى مطابق تقريباً، لكن بتوسّع أضخم، للعمل الأساسي "تشريح العدوانية البشرية" لـ إريك فروم الذي اعترض على فكرة الغريزة الملصقة بشكل غير دقيق بمفهوم القسوة/ العدوان الخبيث.
فضلاً عن رفض فروم للتجارب المصطنعة التي تجلت في عملي ستانلي ميلغرام 1963 وتجارب زيمباردو في سجن ستانفورد 1971 في أميركا، التي انتشرت كبرهنة علمية على توفر نواة طبيعية أوغريزية في الإنسان، تجعله يتمادي في العنف إلى حد القسوة، لأن التجارب المصطنعة وفقاً لـفروم، تضلل النتائج المتباينة المتوفرة في تجارب القسوة الحقيقية.
هل القسوةُ جوهٌر في الفرد؟
لا يظهر هذا السؤال في عمل كنعان مكية "في القسوة" الذي يبتدئه بالبحث في مغذيات هذا المستوى من العنف غير القابل للتعليل أو التحمّل. وذلك بالإحالة بداية إلى "قصة الخلق البابلية" التي يتخذها مرجعاً ثقافياً ونفسياً – ربما – لترسّخ القسوة في التاريخ العراقي الحديث، إذ يأخذها مكية كخلفية سياسية للنظام الشمولي، حيث تفضي المعركة بين الأم الكبرى "تيامات" وابنها "مردوخ" إلى انتصار هذا الأخير الذي مزق جسد أمه فانتشرت الأم في الطبيعة لتعود إلى الظهور من خلال بث الفوضى في النظام.
لذا، سيكون مشروعاً بالنسبة إلى الملك استخدام العنف لأجل استعادة النظام. وللمفارقة، يسرد إريك فروم القصة ذاتها (ص265) دون أن يعلل بها أي مفهوم عن القسوة، بينما يجد مكية في اللوحة التي تؤرخ قصة الخلق البابلية، توارثاً في القتل، وربطاً بين المعاناة الآشورية العتيقة، وبين الإرهاب الذي مارسه تنظيم داعش في المدن العراقية التي احتلها عام 2014 (ص33).
لكن، يجب الأخذ في الاعتبار أن معنى القسوة في عمل مكية لا يتوقف على المدخل التعريفي للمفهوم، الذي يستدعيه من الفرنسي ميشيل دي مونتين (القرن الـ16)، وتحديدها بعملية إلحاق الأذى الجسدي والنفسي بفرد في حالة ضعف بغرض تدمير الذات (45)، وتركيزه في هذا السياق على العنف الجسدي الصادر عن السلطة السياسية العراقية وميليشياتها، بل يتوزع في الهيكل النظري للكتاب، في الترتيب الفكري للمواضيع التي أسهم غيابها أو حضور نقائضها في تعزيز القسوة كواقع يستمر يتنامى في العراق والمنطقة بمجملها، عبر ممارسات إجرامية، تلقى رواجاً شعبياً وسلوكيات مناهضة لكل ما هو معقول. مثلاً ترسخ المشاعر ما دون الوطنية، وغياب الحوامل الضرورية للحم الفروقات المجتمعية بين الجماعات الأهلية المتنابذة، محيلاً بذلك إلى الأفكار التي وردت في عمل بندكت أندرسن حول التخيل الاجتماعي للهوية.
وعدم اشتغال آليات تأسيس الدولة – الأمة في العراق الحديث، علماً بأن المنظرين الأساسيين لمفهوم التخيّل الاجتماعي هم رينان وأنتوني غيدنز وكاستورياديس.
لذلك، نجد أن مكية قد نظّم الكتاب ليعلل كيفية تشكل القسوة كتدفق تاريخي للعنف في مجرى ثقافي تسويغي، انتقل به من الإطار الوظيفي لمؤسسات الدولة إلى الكيان المجتمعي. ضمن هذه النقطة، يشير مكية إلى عمل ميشيل فوكو، دون أن يجادله. في الواقع، لقد وفّر فوكو في مؤلفه "المراقبة والمعاقبة/ ولادة السجن" وثائقية عميقة لتطور نظم العقاب وتعقد تقنيات الضبط المجتمعي، والتحول من الجسد إلى النفس.
وقد قام فوكو كعادته بتهجين مناهجيته، ليخرج بخلاصات قابلة للاشتغال خارج المجال الأوروبي. مثلاً مفهومه عن "الموت التعذيبي" القابل للتوظيف في السياق العراقي، دون أن يتمكن كمفهوم من تفسير أسباب تحوّل العنف إلى لذة إجرامية في العراق الحديث.
لأنه ببساطة، يعمل كل نسق اجتماعي على إعادة إنشاء دلالته الخاصة حتى وهو يشارك النزعة العدوانية ذاتها لدى مجتمع آخر. فالموت التعذيبي الذي يمسك الحياة في الوجع – بتعبير فوكو – قد تنامى بنحو مفرط في العراق، جسّدته إبادات وجرائم لم تقوَ الفنون والآداب العراقية على تجسيدها إلا جزئياً إن لم يكن سطحياً.
ومصادر إنتاج الموت التعذيبي وغاياته العراقية فمختلفة عن تلك المتعلقة بالتاريخ الأوروبي، فلم يحدث التعذيب في العراق لأسباب خاصة بالنظام القضائي والعدلي أو لأجل انتزاع الاعتراف، هذه الفكرة المشتركة بين تصوّري فوكو ومكية، لأن فنّ التعذيب العراقي – ليس تقنياته المستورد بعضها من الروس – هو ابتكار محض للقسوة غير المعللة لا باللذة ولا بالاعتراف. لم يكن النظام العراقي مطلقاً يبحث عن اعتراف ضحاياه.
لم تكن هناك عدالة حتى يكون هناك تعليل للعقاب. الأمر ذاته لدى التنظيمات الإرهابية التي كانت تلهو بتعذيب الضحايا ولا يمكننا العثور على تفسير لذلك اللهو. فبمجرد أن يسقط إنسان في قبضة مثل هذه الأنظمة، تنتهي حينها العدالة ويبقى لديه فقط الأمل بموت أقل تعذيباً.
البحث عن وظيفة للقسوة على غرار العنف، يعوق تفسيرها. وقد حاول ميشيل فيفيوركا في مؤلفه المهم"La cruauté" رسم مسارات متعددة لتمثل القسوة في سلوك الساديين، وعبر مجادلته لأعمال كثيرة تناولت القسوة عبر تخصصات متعددة، وصل إلى نتيجة استفهامية، تبدو أكثر معقولية حول المعنى أو الغاية التي نجدها في فعل الفرد القاسي. فهو بداية فعل دون غاية خارجه، يرتكز على شهوانية الرغبة في التدمير المفرط، لكنه لا ينحصر في الاقتصاد النفسي للفرد. بالتالي ثمة تفسير للقسوة التي قد تبدو أنها بلا معنى، وتتموضع كفعل خارج الطبيعة الإنسانية. على أهمية ما تقدم، وعبر دراسة الفيديوهات المتوفرة حول المجازر التي ارتكبها النظام العراقي السابق، كقطع لسان المعتقلين السياسيين بشفرات الحلاقة، وكسر أطرافهم بالبلوكات، ورميهم من فوق الأبنية إلخ.
وما تلاه من نسخه المتنوّعة، سواء في صيغة ميليشيات أو تنظيمات إرهابية. لا تتوفر هذه المادة على مؤشرات كافية للخروج بفكرة ما حول عملية القسوة السادية ضمن النسق العراقي.
علماً بأن تنظيم داعش استخدم القسوة كاستعراض همجي للعنف – ليس القوة طبعاً – من أجل إنتاج العبرة. وقد نجح في ذلك، عبر إرسال الصورة المتخيلة لجنوده الذين يذهبون إلى الجبهات ليموتوا وحسب، وقد أسهمت في تعقيد مهام قوات المشاة التي حاربت التنظيم. بيد أن فكرة العبرة أيضاً لا تفسر سادية عناصر التنظيم السيامي صدام/ داعش، الذي تكرر بصورة طبق الأصل في سوريا، عبر التوأم السيامي الآخر للنظام والفصائل.
سأفترض أن عمل مكية يبدأ بسؤال غائب، بينما تتوزع إجابته في كيان الكتاب ككل. وهو لماذا ثمة وفرة في القسوة ورغبة في تمثلها داخل ثقافة المنطقة ككل؟ إذ ما ينطبق على العراق، يشتغل دون أدنى تغيير في سوريا وتركيا ولبنان أيضاً. عملياً، تخلو المكتبة العربية بعمومها من ثقافة حقوق الإنسان.
ويخلو التاريخ العربي الحديث من أي شكل من أشكال التضامن مع الشعوب المضطهدة، سواء تلك التي تقمعها الأنظمة العربية، أو في أي مكان آخر، بل وأحياناً يبارك الإبادة المرتكبة زعماء متوحّشون، وهو الذي يختصره مكية في الموقف المخزي لإدوارد سعيد من جرائم صدام حسين، حيث رفض سعيد التوقيع على عريضة عراقية بحجة أن ذلك قد يخدم الإمبريالية (ص272). إجابة سعيد على ضحالتها، تعكس ركناً جوهرياً في ثقافة المنطقة المتوافقة مع العنف كشيء مرغوب.
وربما لإدانة الموقف الآنف، يستدعي مكية إلى التعليل، أفكار هانا آرندت، خصوصاً مؤلفها "في العنف" الذي قد يبدو غريباً دخوله في النقاش، لأن آرندت لا تميّز في مؤلفها هذا بين القسوة والعنف، بل تطالب بتمييز العنف عن القوة والسلطة(39)، وتنتقد عنف السلطة المشروع الذي أطرته أفكار ماكس فيبر(31).
لكن يمكن لعمل آرندت هذا أن يخدم أفكار مكية في معرض انتقاده للموقف المتخاذل لسعيد من قسوة النظام العراقي، وعبره نقد ثقافة عربية متوائمة مع العنف.
عملياً، هذا ما تفعله آرندت دون مواربة عبر نقد العنف الممارس باسم الثورة أو غيرها من العبارات التي وجدتها مفضية إلى العنف بتسميات تشرّع العنف، فانتقدت المقدمة التي كتبها سارتر لكتاب فرانز فانون "معذبو الأرض"، ونقدها الصارم لتبجيلهما – سارتر وفانون – للعنف الثوري تحت مسمّى حركة التحرر وإلصاقها على نحو مضلل بماركس(21).
كما أن دعوة آرندت إلى مواجهة العنف بالصفح العادل، تتحول إلى جزء من كتاب مكية ومن تاريخه السياسي الشخصي، حيث يصبح "العفو العام" حلاً وحيداً للخروج بالعراق من دائرة الانتقام العرقي والطائفي (ص333).
مصادر أخرى للقسوة
يتدرّج عمل مكية حججيّاً بالمقاربة الفكرية للثنوية المتناقضة. مثلاً غياب فكرة المواطنة عن المؤسسات العراقية التي ظهرت متطابقة مع مصالح فئة ضد أخرى. ومبادلة مفاهيم حقوق الإنسان بالقيم القبلية والعرقية، وتفشي التصورات الخرافية حول الدين، ليتحول الانقسام الطائفي والمذهبي إلى عقبة هوياتية، وفاعل قوي في بنية مشاعر الكراهية، مع بقاء المجتمع منكفئاً على كياناته الرهطية البدائية، وتجريم فكرة الفردانية.
وبالتالي تمت مبادلة ما تقدم بنقائضها، الأمر الذي أثمر وفقاً لمكية مفارقة "النهضة الناقصة" التي جعلت جزءاً من المثقفين العرب يتعاطون بريبة مع أفكار التنوير الأوروبي، فيما هم على استعداد لتبنّي الأفكار العقائدية، كالقومية والشيوعية (155).
من جهة أخرى، يرى مكية أن القسوة تكمن في صميم النظام الشمولي، وفي العراق، من ثم تحلل النظام إلى ميليشيات (268 تنظيماً) قضت على الفضاء السياسي في العراق (ص257).
كأي عمل معرفي، يبحث كل مفكر عن مفهوم جذري لتعليل ما هو عصيٌّ على التفسير. وقد شكلت القسوة تحدياً معرفياً أمام مختلف الاختصاصات. وأجد أن إريك فروم عثر على آلية دقيقة لتشريح القسوة في عمله "العدوانية البشرية" بجزأيه. فلقد بات من نافل القول أن القسوة ليست غريزة. لماذا؟ لأن الفيزيولوجية العصبية التي راهنت على الدماغ لتعليل القسوة، لم تخرج بنتائج متماسكة. بل دحضتها عينات مماثلة في بيئات مختلفة.
وفي المرحلة التي كان فيها فرويد يقول إن علم النفس لم يصبح علماً بعد، شرح في رسالته التي بعثها إلى آينشتاين عبثية الربط بين العنف والغريزة. وأشار فرويد إلى نقطة مهمة، وهي أن العنف والحق نقيضان، وأن "الحروب التي جاءت بالشر كغزو المغول والأتراك" قد عمّمت العنف كغريزة للتدمير والقتل.
أخذ إريك فروم بالتعاون مع طلابه ومؤسسات علمية كثيرة، تقريباً معظم ما كتب حول القسوة إلى سنة 1973، تاريخ ظهور كتابه المذكور أعلاه. وقد توصّل إلى مفهوم "الطبع" كبنية خاصة تحثُّ السلوك حسب الغاية المهيمنة (ص391)، متابعاً – فروم – بأنه "كلما تطوّر الإنسان قلَّ التكيّف.
مع ذلك، فإن الأوضاع البيئية المختلفة، قد جعلت من الضروري لكل جماعة أن تكيّف سلوكها مع هذه الأوضاع الخاصة، لا بمجرد التعلم، بل كذلك تنشئة طبع اجتماعي" وأن "الوسائل التي يتشكل بها الطبع الاجتماعي ثقافية في ماهيتها.
الطبع له الأهمية الحاسمة في فهم تبدّيات العدوان الخبيث، والأهواء السادية التدميرية عند الشخص تنشأ في نظام طبعه" (ص392).
تتقاطع هذه الفكرة مع المسعى الذي دفع بمكية إلى أن نقد القصور الثقافي في المنطقة، وتحميلها الجزء الأكبر من المسؤولية حيال ما آلت إليه الأوضاع. وأجدني متفقاً هنا مع رؤية مكية لفشل الربيع العربي الذي تبدّى كمحاولة للتخلص من الأنظمة القمعية. لكن مع ثقافة منكفئة على التقليد وصرعة الشعارات، لن يكون التحرك الاجتماعي قادراً على إحداث تغيير عميق في الموقف من الحياة المشتركة سياسياً واجتماعياً. وهكذا، أفَلَ الربيع وخلّفَ أوضاعاً مماثلة لما كانت عليه الحال قبله.
يضاف إلى ما تقدم، إشكالية أخلاقية شمولية متمثلة في الإنكار الجذري لواقع الجريمة أو الإبادة. هذه هي الخلاصة المترتبة تقريباً على الفقرات التي يسردها مكية بالوقائع في العلاقة بالذاكرة والنسيان والمسؤولية. فبالرغم من توفر تلال من الوثائق التي تكشف الجوهر الهمجي لنظام صدام حسين، لم تظهر إلى اليوم محاولات معرفية على غرار ما ظهر في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وفي جميع اختصاصات العلوم الإنسانية، لدراسة هول العنف الراسخ في ثقافة المنطقة التي تغذي طباع القسوة بأسباب وجودها. وبمجرد إلقاء نظرة خاطفة على الرموز التي تبجلها شعوب المنطقة عبر المنصّات الرقمية، تظهر الكارثة المتمثلة في الرغبة الجماعية بالخنوع لعنف الزعماء الساديين.