النهار

"قطار ولا محطة" لأمين ألبرت الريحاني أو الخلاص من طغيان التاريخ
المصدر: "النهار"
"قطار ولا محطة" لأمين ألبرت الريحاني أو الخلاص من طغيان التاريخ
تعبيرية.
A+   A-
الدكتور جورج نقولا الحاج

*عميد سابق لكليّة الإنسانيّات والدراسات الشرق أوسطية
جامعة كولومبيا، نيويورك


نص مُعَرَّب مستلّ من المقدمة الإنكليزيّة المطوّلة للدكتور جورج نقولا الحاج، مترجِم كتاب "قطار ولا محطة"، لأمين ألبرت الريحاني، المنشورات المستقلّة، نيويورك، 2022.

في كتاب "قطار ولا محطة"، نحن أمام نص صعب حيث تجد كل مفردة مليئةً بالمعاني اللانهائية، ومشبعةً بالرمزية الملوّنة. نحن بصحبة مسرحيّة ثلاثية صعبة مؤلفة من ملاح كاتب متمرّس، ومؤلف مثابر منشغل بمعنى الزمن. إنه مشبع بقلق الوجود، غارقٌ في توترٍ وجودي، ومأخوذٌ بسرِّ الإنسان ومسألة الألم البشري والبحث الأبدي عن الحقيقة المطلقة. بهذه العدّة نراه يسعى لإيجاد إجابات مقنعة لهذه الأسئلة المستحيلة. إنّه يدعونا إلى مأدبة فكرية، ويدعونا للسفر معه في رحلة مرهقة، ملحمة وسط محيط هائج، وعلى إلياذةٍ يمكن أن تؤدي إلى ساحة معركة غارقة في الدماء حيث يمكن أن يخدم كاحل أخيل في النهاية في وقت واحد، إما كمَنْفَذ للدخول الوحيد إلى بوّابات الجحيم أو كوسيلة وحيدة للخلاص من طغيان التاريخ.
لقد انتقلنا من لحظتنا الحالية إلى لحظة المؤلف الخاصة، وهي لحظة غير عادية من الزمن حيث يقف على مشارف الوجود ويتحدث مع الأصوات السابقة للفلاسفة والمؤلفين الذين تعلموا أيضًا الحكمة من شيشرون أو أبحروا بعيدًا مع أوديسيوس. وقد غاصوا مع هوميروس ودانتي في مثل هذه الأعماق والمسائل الفلسفيّة غير المألوفة.
 
يلاحظ القارئ أنّ هذا الكتاب هو بمثابة دراما وجودية. إنها مسرحية فكرية لأحداث معينة، تصور ببراعة نضال الإنسان ووجوده في علاقة ثلاثية مع الزمان والمكان. يتناول الكتاب العلاقة المتبادلة بين ثلاثة كيانات هائلة تشترك ماديًا وروحيًا في هذا الكون اللامتناهي، أو على الأقل في الجزء المعروف منه الذي قد نفهمه أو لا نفهمه. إنها مسرحية رائعة تعالج ما كان غامضًا حتى الآن، لكنها علاقة حتمية مترابطة بين ثلاثية الزمان والمكان والإنسان. ومن الواضح أنه لا يمكن للواحدة منها أن توجد مستقلّة عن الأخرى على الرغم من أن كلًا منها فريدة من نوعها في هويتها وصفاتها وخصائصها، وفي النهاية، تحقق كلٌّ منها الأخرى وتُتَمِّمُها. الوقت يرمز إلى السيولة والحركة. المكان يشير إلى الصمود والجمود ، والإنسان يجسِّد الوعي واللغة والمعنى.
 
في نهاية المطاف، هذه المواجهة ذات الأبعاد الملحمية والأبعاد التوراتية هي استجابة لسعي الإنسان اللامتناهي للعثور على إجابة مُرْضية لوجوده الفاني الغامض الذي تم تشكيله من خلال اندماج خاص، شَكَّلَ هذا المخلوق البشري الكامل. لكن شكّله جزئيًا وهو يحاول العثور عليه، والعثور على هدفه ومكانه في هذا الكون الشاسع.
 
إن تلك "الشخصيات المؤذية" الثلاث تكمل بعضها بعضا، حتى لو كانت مختلفة وفريدة من نوعها. ويمكن بالتاكيد، أن يوجد الزمان والمكان من دون الإنسان، لكن وجودهما سيبقى غير مكتمل وغير مثمر وغير معروف، لأنهما سيجدان نفسيهما غارقين في الظلام والنسيان. وحده الإنسان يستطيع أن يخرجهما من خلال منحهما الوعي والمعنى من خلال وعيه ومن خلال لغته.
 
في حين أنه لا يمكن للإنسان أن يكون إلا من خلال سياق الزمان والمكان. فهو يحتاج إلى الوقت لقياس تقدمه وفهم المراحل الثلاث لوجوده: الماضي والحاضر والمستقبل. ويحتاج الإنسان أيضًا إلى المكان من أجل الاستمرار في الوجود والازدهار في بيئة مناسبة لا يمكن توفيرها إلا من خلال الطبيعة التي هي مظهر من مظاهر المكان.
 
في النهاية، عندما يواجه الإنسان "حقيقة" الزمن، يقف وحيدًا مثل صوتٍ يبكي في البرية. إنه ليس في لحظة طيبة من الغبطة. بدلاً من ذلك، هو مدعو لتحمل "الرعب" في مثل هذه اللحظة الوجودية، التي يتم حذفها من صفحات "نهاية العالم"، وهي تثقل كتفيه وتسلط الضوء على هشاشة وجوده.
 
نحن، كبشر، مهووسون بالوقت لأننا، كما يذكّرنا المؤلف، نعتقد أن لدينا كل الوقت لكل شيء، ومع ذلك ليس لدينا الوقت لأي شيء. نتجاهل معنى الزمن ونركز على الشكل بدلاً من ذلك، وبالتالي نصبح غرباء على أنفسنا، وننسى أن العلاقة بين الذات والزمن هي جوهر الأمر، وهي مفتاح فهمنا للوجود. لن نفهم أنفسنا والكون من حولنا حتى نصدق ما يقوله جبران أن "كل شيء في الخلق موجود بداخلنا"، وحتى نفهم، كما يخبرنا المؤلف، سر التحوُّل في جوهر السكون، والمعنى من السكون في قلب التغيير.
 
 
الوقت مادة قابلة للاحتراق مثل عود ثقاب لا يمكنك إشعاله إلا مرة واحدة؛ إنه مثل لحظة عابرة لا يمكنك أن تعيشها إلا مرة واحدة، ومع ذلك يصر الإنسان على التقاط الوقت وإغلاقه في زجاجة يمكنها إما تحرير الجن الشرير بدلاً من الشخص اللطيف، أو ما هو أسوأ من ذلك، يمكنه فتح الصندوق الأسود ليجلب الوباء والدمار. في المقابل، يحذرنا المؤلف من أن الزمن سيف ذو حدّين: يمكنه أن يشفي الجروح، لكنه قد يشعل أيضًا حريقًا هائلاً. الوقت لا يمكن إيقافه، ويمكن أن يكون معزيًا يوَفِّرُ لنا النسيان الجميل، أو عدوًا قاسيًا بلا رحمة. يحذرنا المؤلف مرة أخرى من إمكان تكرار ضربات الإزميل في المكان نفسه، لكن من المستحيل تكرارها في الوقت المناسب.
 
نعم، الزمن سحيق. مع ذلك، هو ليس بداية كل شيء، لأن "في البدء كان الكلمة ..."، وهذه "الكلمة" هي البداية، بداية كل شيء: الزمان والمكان، والإنسان. مع ذلك، من بين هذه الكيانات الثلاثة، وعلى الرغم من هشاشته، فإن الإنسان هو الوحيد الذي يَقوَى من خلال "الكلمة"، التي يمكن أن تَقوَى بالمعنى، والمعنى يتزوَّد بالوجود، والوجود هو الحياة وهو فعل الخروج من العدميّة.
 
يشير أمين البرت الريحاني إلى أن "الكلمة" هي خيط يمتد من الماضي البعيد إلى رحابة المستقبل غير المنظور. إنه الجسر الذي يربط هذه الكيانات الثلاثة التي لا تنفصم، ويربطها في كرة نارية من النشوة والوفاء. بعد كل شيء، ويؤكد أمين أن الزمن هو قلق الكلمة حيث يغمر نفسه منطويًا على ذاته، والكتابة هي فعل توحيد أطراف الزمان وحدود المكان.
 
علاوة على ذلك، نتعلم أيضًا أن المعنى هو اللغة، التي يمكننا إعادة تشكيلها وإعادة تصميمها، وأن هذه اللغة هي وعاء المعنى. اللغة وحدها هي التي يمكنها أن تلتقط الفكرة العابرة وتضفي عليها معنىً ووجودًا. يمكن لعقل الإنسان وخياله أن يتجاوز الزمان والمكان بالتجوّل في أماكن وأزمنة بعيدة وغريبة دون الحاجة إلى مغادرة القرية التي ولد فيها.
 
في نهاية المطاف، فإن نظرة الإنسان للغة وللمفردات هي بمثابة هبة إنسانية خاصة تُوَفّر معنى للوجود، وتُعطي المعنى هوية للأشياء وتزودها خصائصها المميزة. هذا ما يسمح للإنسان، في إنسانيته الهشة، بالوقوف شامخًا ومواجهة الكتلة الهائلة للمكان رغم عدم قدرته على الاستيعاب المطلق للزمن، وعدم يقينه وبتدفقه المتواصل، مع العلم أنه سيتحمّل في النهاية لأنه، إنسان "بلا نهاية"...".
 
مع ذلك، يدرك المؤلف إدراكًا تامًا حقيقة قلقنا المتزايد، فلا يتركنا عالقين على جادات الأماكن أو غارقين بين القطرات وحالات الزمن. يأخذنا المؤلف بيده ويؤكد لنا أنه كان حيث نحن الآن وأنه قد اختبر خوفنا وقلقنا أيضًا. عندها فقط ندرك أن تلك الأطوار والوجوه المتعددة المربكة والمخيفة التي يسردها في مقدمته جنبًا إلى جنب مع محاولته الصعبة لالتقاط اللحظة العابرة، كانت ذات يوم مصدر قلقه ورسالته كما هي محور قلقنا الآن.
 
لكنّ أمين ألبرت الريحاني تجاوز ذلك القلق إلى الضفة المقابلة لنهر الحكمة ووضوح الرؤيا. هناك يجلس في سعادة وفي سلام مع كلمته ولغته ومعانيه، لأنه قد توصل إلى حقيقة الزمن المرتبط بوعي الإنسان، وأن العالم يكون منطقيًا فقط حين يستيقظ هذا الوعي ويصبح وعيًا حيًا وفاعلًا.
 
الزمن هو أغلى سلعة للإنسان وأغلى هدية له لا تنتظر وقتًا طويلاً حتى يصعد على متنها، ولا يمكن زيارته مرتين في اللحظة نفسها. مع ذلك، نجح المؤلف في إضفاء الطابع الإنساني على الزمن دون أن يتخلص من صفاته السحرية والأثيرية. لا يتوقف الزمن ولا يعيد نفسه، لكن أمين يحاول بثبات أن يلتقطه، ويستولي عليه، ويفهمه، ويشرحه. مع ذلك، يبقى السؤال: هل ينجح الإنسان في هذا المسعى المستحيل؟ هل سيتمكن المؤلف من استرداد أنفسنا من خلال إظهار نهاية سلسلة ذهبية كما قال ويليام بليك؟ أيًّا كان الجواب، يبقى قلم أمين ألبرت الريحاني، تبقى كلماته وأفكاره وثقافته الفلسفية والوجودية الواسعة، كما تبقى خلفيته الأدبية واللغوية الثرية المذهلة، وكذلك قدراته الشعرية تلمع جميعًا مثل منارة مشعّة عبر النص.
 
هذا الكتاب جاء نتيجة مدوّنات فذّة لمؤلّفٍ شجاع تجرأ على تحدي نفسه، وطرْح الأسئلة الصعبة، والتحقيق في الردود التي لا تلين أمام الألغاز الأبدية التي شغلت الإنسان منذ زمن سحيق. هذه أسئلة لم يطرحها سوى هؤلاء المفكرين غير العاديين الذين صدموا رؤوسهم بصخرة الأبدية في محاولتهم لاستخراج إجابات من قلب الكون في ما يتعلق بصحة الزمان وأهمية المكان ومكانة الإنسان في الوجود... تجرأوا على سبر ألوهية الإنسان واستكشاف حقيقة التاريخ وراحة الانتماء. سألوا عن الحياة والموت وعن السّفَر في الزمان والمكان. لقد تأملوا في حقيقة الوجود، واستمرارية الحياة، وأصلها، وعلاقة الإنسان بكل ما يُحيط به من عوالم وأسرار.


الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium