النهار

القتيلة رقم 232 لجمانة حدّاد: التمرّد الجنسي وطريق الصوت الروائيّ الشائك
نبيل مملوك
المصدر: "النهار"
القتيلة رقم 232 لجمانة حدّاد: التمرّد الجنسي وطريق الصوت الروائيّ الشائك
القتيلة رقم 232 لجمانة حدّاد.
A+   A-
في روايتها الأخيرة "القتيلة رقم 232" الصّادرة عن دار نوفل –هاشيت أنطوان (طبعة أولى-2022) وضعت جمانة حدّاد المتلقّي أمام حقّه في الاختيار من خلال القراءة، والحق أن مفهوم الاختيار قد شكّل واحداً من مداميك النظريّة الوجوديّة لجان بول سارتر التي نسفت الرغبة وبالتالي الخطأ والصواب. في نصّها الجديد جمعت حدّاد ظاهرتين، الأولى باتت تقليديّة وهي العنف ضدّ المرأة عبر شخصيّة ميشلين الغارقة بين براثن زوج اكتشفتْ أنّه قوّاد، أمّا الثانية فهي رغبة التحوّل الجنسي وانعكاساته الاجتماعيّة التي حملها كالصليب عبّاس جابر (هند)، ظاهرتان انضوتا تحت تاريخ 4 آب وأظهرتا رسماً بيانياً لصوت روائيّ قفز من السرد نحو الحثّ، نحو التوضيح، وأخيراً نحو الرؤية المصاحبة للسرد.

السّاردان والمبنى الحكائي

حافظت صاحبة "الجنس الثالث" على متانة المبنى الحكائي من خلال إفساح المجال للشخصيتين الأساسيتيْن بسرد وقائعها بموضوعيّة تامّة حتى لو رأينا تدخّلاً واضحاً من الصوت الروائي للكاتبة حين تجنح الشخصيّة للتفكير بمسار حياتها ومصيرها "امسحي الغبار جيّداً يا ميشا. لا تدعي بقعة واحدة تفوتكِ" (ص.16). "البشر نوعان يا هند: الضباع من هنا، والأبرياء من هناك (ص.26). وقد شكّل تدخل هذا الصوت الروائي الخاص بالراوي العليم (الكاتبة) نوعاً من الحوافز الدينامكيّة وفقاً لتسمية "تشوماتشفسكي" خاصّة أنّ لوجود هذا الصوت الطارئ احتمالين: الأوّل محاولة التأثير على المتلقّي ممّا يثير القلق ويحول دون أخذ موقف ولو كان مبدئيّاً، وهذا بعض الشيء قيّد حريّة المتلقّي في صنع الصورة الأيديولوجيّة الخاصّة به أو محاولة مراجعتها "إيّاكِ أن تشفقي على إنعام يا هند. هي أمّ وعلى الأم أن تسمو" (ص.109). هل هو إعطاء البنوة صك البراءة دون محاولات أخيرة للتواصل بين هند (عباس) والأم (إنعام)؟ أم هو حثّ إضافيّ على التمرّد وكسر مفاهيم أزليّة بمثاليّتها وقدسيّتها كالأمومة وواجب طاعة هذه الهالة ومحبّتها واتّباعها؟! استطاعت حدّاد أنْ تأسر الشخصيّتين في قالب روائي بأسلوب مكثّف وسلس دون أيّ إطناب أو عودة لوحدات من الحكي قد تحمل الكثير من تفاصيل السيرة الذاتيّة، يكفي أنّها جعلت مقدّمة الرواية وخاتمتها فضاءً لوضع الكثير من الملاحظات والإشارات حول ولادة الشخصيّات والسير المسرحي للأحداث وبالتالي فإنّ هذه الهوامش بالإضافة الى مونولوج الساردين ميشا وهند بعيداً من أيّ حوارات طويلة أو حوارات بين الشخصيتين في "ربع الساعة الأخير" قبل انفجار 4 آب قد شكّلا سلّة تحوي الكثير من التأثيرات على المتلقّي الذي قد يخسر قدرته على تكوين الانطباع الخاصّ به من جهة وقد ينخرط في الفكرة التي تحاول حدّاد إيصالها ألا وهي التعاطف مع كلّ شخص يعبّر عن حريّته وخياراته دون التسبّب بالأذى للآخر... أي إنّنا أمام خطاب جندريّ (عند هند "عبّاس جابر") يواجه الدين والمجتمع سرّاً وعلانية بشكل تلقائيّ دون التطرّق إلى مفاصل الخطاب السماويّ أو آياته...
أما في المقلب السردي الثاني، فقد كانت ميشا من خلال صوتها الروائيّ تمنحنا فكرة واضحة عن عذاباتها مع زوجها جورج، القوّاد الذي استنزف جسدها والآخرين لقاء المال لتوصلنا مع صوت الكاتبة نحو الاقتناع المبدئي بضرورة موته ولو من خلال التسميم "أراقب يديّ إذ أفعل. أنا لا أرتجف. غريب. حتّى إنّي لستُ خائفة وقلقة" (ص.159). هذا النفي العنيف للخوف والقلق وما سبقه من مشهديّات شبه تراجيديّة يظهر لنا فظاعة التعنيف الذي تعرّضت له ميشا ممّا جعلها عطوفة تجاه (هند) لتعويض كل هذا النقص العاطفي الذي أوصلها الى الإيمان بضرورة موت جورج للخلاص...
استطاعت حدّاد إذن أن تمنح نصف الحريّة للمتلقي والنصف الآخر للسارديْن عبر وجودها عند نهاية كل فصل على شكل صوت خارجي يأمر وينهى ويوجّه النبرة الخطابيّة الذاتيّة الداعية إلى التمرّد على كل ما هو موروث ومعروف بدءاً من الحلقة الأسريّة وصولاً إلى النظرة الى الحريّة.

زاوية الكاتبة وسقطة التفسير

كما فعلت في روايتها "بنت الخيّاطة" اتجهت حدّاد نحو زاويتها الروائيّة الخاصّة لتلخّص هذا المشوار الكتابيّ الحافل بالموت والتعذيب والاضطهاد وتكمل المشهد بعد أن تحوّلت العاصمة الى رماد: "أذكر أحد قرّائي المؤتمنين علّق يومذاك: لماذا هذا الإصرار على قصص النساء المهمّشات والمظلومات..." (ص.202) "كانت الكاتبة، في تلك اللحظة المريعة في بيتها. بيت الكاتبة في الشارع الموازي لمنطقة الرينغ" (ص.206). أحالتنا الكاتبة إذن الى غرفتها الخاصّة التي نسجت فيها صفحات الرواية وتفاصيلها وشخوصها وأحداثها، إلّا أنّها وقعت في فخ التفسير الذي لو امتدّ أكثر لقتل مفعول التأثر والتأثير الذي خرج بصحبتهما المتلقّي خاصة حين تطرّقت إلى الخاتمة: "رواية ستولد مبتورة. فليكن. أكملنها وأكملوها أنتم، على مزاج خيالكم" (ص.210). السؤال هنا يطرح نفسه: لمَ أعادت الكاتبة تفسير ما تمّ تفسيره حين أخفت الانفجار صوتي ميشا وهند؟ ألم يكن من الأجدر ترك المتلقي يستنتج أنّ الرواية لا تتمّة جامعة مانعة نهائيّة لها؟ فضلاً عن ذلك فإنّ وقوع الكاتبة في تفسير ما كان واضحاً جعلها أيضاً تقع في فخ التغاضي عن المساواة بين رسم مصير هند ومصير ميشا، فميشا لم نعرف هل ماتت أم بقيت حيّة من ضمن الجريحات؟ ولو افترضنا أن واحدة من الإجابات عن هذه التساؤلات هي أن قضيّة هند باتت ظاهرة حديثة مقارنة بقضيّة ميشا المتصلة بعنف جندريّ أزلي... أما كان من الأفضل اختزال القصّة بهند خاصة أن مصيرها ومسارها الحياتي وعنوان الرواية اتصل بها؟
إذن، فضّلت الكاتبة الاتصال المباشر بالمتلقي وقد يشكل من زاوية نقديّة أقلها أسلوبياً محاولة غير مقصودة نتيجة الانفعال في احتكار الدلالة وصناعتها...

4 آب بين حدّين
وسط تحصين الرواية بالإطارين الزماني والمكاني، والزماني بشكل لافت وأدقّ، اختارت حدّاد أن تكون جلّ انطلاقاتها السرديّة انسجاماً مع زمن كتابتها للرواية ضمن واقعة 4 آب 2020، ما وضعها أمام حدّين، الأوّل إعطاء موقف سياسيّ وإنساني إزاء ما حصل "وزارة الصحّة اللبنانيّة، يعطيها ألف عافية، كفّت عن إحصائهم في 3 أيلول 2020... هنّ وهم مجرّد رقم بالنسبة إلى دولتنا العظيمة" (ص.199) ممّا أعطى الكاتبة أيضاً دافعاً إنسانيّاً وأخلاقيّاً لرفع نبرتها الانفعاليّة تجاه المسؤولين "يهوذات لبنان الأكثر جبناً ودناءة من أن يشنقوا أنفسهم. يا عيب الشوم". (ص.199). أمّا الحدّ الثاني فهو الحدّ التقني الروائي الذي يسجّل للكاتبة من خلال اختيارها لهذا الانفجار ليكون يقعة مناسبة لمسرحة النهايات بدءاً من موت هند وصولاً إلى الحديث عن الشخصيتين الثانويتين الأولى السوريّة التي تخاف كأيّ لاجئة ولاجئ في بلاد غريبة من التعاطف أو الانخراط مع المظلومين أمثالها، والثانية عاملة المنزل المضطهدة في بيوت تعجّ بمظاهر الحيوات الماديّة المفتقرة للرحمة والإنسانية.
شكّل 4 آب مسرحاً مناسباً للاحتفاء بالنهايات المتوقعة وغير المتوقعة، وأبقى المتلقّي على مسافة واحدة بين حيرته أو التمرّد على كلّ ما يقيّد حريّة الآخر.

شكّل نصّ جمانة حدّاد منبراً جديداً للثورة من خلال صولات وجولات لصوتها الروائيّ على مختلف أصقاع الحكي والحدث واضعة نفسها من خلال زاويتها الروائيّة قائدة لهذه الثورة ومن خلال الصوت المصاحب لكل سرد في كل فصل لينتهي بنا الأمر عند عدّة أسئلة: هل نحن أمام تشريع الحريّة كمفهوم مطلق متحرّر من أيّ قيد قيمي وأخلاقيّ متوارث؟ ألم يكن الموت منذ روميو وجولييت وانتظار غودو وفاوست حلّاً مسرحياً للتخلص من قلق إزاء شكل المصير أو المصائر البشريّة المرتبطة بحق الاختيار؟


الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium