نجول في أرجاء "الشارقة القرائي للطفل" مع الدكتور طارق البكري، اللبناني الوحيد الذي حلّ ضيفاً ضمن 43 متخصصين في صناعة أدب الطفل من أنحاء العالم، فنلمس أنّ توقّعات دور النّشر من الكاتب والأكاديميّ تمنعه من التقاط الأنفاس. "هل من جديد؟"، سؤال يتردّد، فيما يستعدّ بعد الظهيرة لتوقيع قصته لليافعين "السرّ المدفون"، التي تطلقها مجموعة "كلمات" الإماراتية لنشر كتب الأطفال، بالإضافة إلى نشره ثلاثة قصص جديدة "القصصجي" عن دار الفقيه اللبنانية، وميّزها كـ"عمل لبناني خالص، استغرق تأليفه ثلاث سنوات"، و"الأرجوحة السحرية" و"المغامرون الصغار" عن دار المكتبة. بكري المقيم في الكويت منذ عام 1993، يعرفه عالم أدب الأطفال بالغزارة والانتشار عبر أكثر من 500 مؤلّفاً، منحته جائزة الملك عبدالله الثاني للإبداع في مجال أدب الطفل عن جميع الأعمال "باعتبار ذلك إنجازاً للعمر". وبالرغم من ذلك، يشعر أنّه "مُقلّ"، مشيراً "لا أحصي بدقة عدد القصص والمقالات والدراسات التي كتبها للأطفال، ولعل أبرزها ستة مجلدات بعنوان "50 قصة للأطفال"، وفي كلّ مجلد 50 قصة، بمجموع إجمالي 300 قصة، صدرت في بيروت عن دار الرقي".
جذب الطفل
لحن في اللغة نقرأه من "السر المدفون":
"هي غابةٌ غريبةٌ، ليست مثل سائر الغابات الّتي يعرفها النّاسُ، امتدّت فروعها كأذرع الأخطبوطاتِ في كلّ الاتّجاهات، تراقصت بِخُيلاءٍ وغرور، وارتفعت بتكبّرٍ واستعلاء، وبات الجميعُ يهاب انقضاضها على البلدة يوماً ما، في لحظة ترنُّح وانتشاء... فتهوي عليها وتقضمها حتّى تبيدَها... وهم فيها قائمون أو نائمون".
يكشف طارق البكري اعتماده الكلمات المركبة المتسلسلة. إلّا أنّه لا يعمّم هذه التقنية أو سواها "وصفة جاهزة" للوصول إلى الطفل، ففي ضوء دراسته وتعليم أدب الطفل وفن الرواية والأساليب القرائية، لم يقتنع طارق البكري بكثير مما تورده ومنها التقسيم العمريّ للطفل تربويّاً وتعليميّاً وما تضمّنته من أفكار.
ثمة ثابتاً واحداً: "القصة الطفلية يجب أن تكون محور روح المؤلف، فلكل إنسان روح تميزه عن الآخر".
أمّا عن نفسه، يشغله "الاثراء اللغويّ، من خلال بيئة صديقة للطفل، بمعجم مبسّط وثريّ في الوقت نفسه، يمكِّنه من اكتشاف ما يحيط بهم في مختلف البيئات المحلية والعالم، مستعيناً برسوم تقرّب المعنى المقصود، وقد أدعم النص بكلمات يظنّها البعض شعبيّة وهي أصلاً فصيحة مثل "تعشّى وتمشّى ووشى"، تدخل فكاهة في كتاب الطفل لأنّني لا أحبّذ تحويل القصة إلى مدرسة، وفي الوقت نسبه فإنّ الطّفل سيتفاعل مع كلمات جديدة".
ويسعى البكري إلى التنويع في الأسلوب ما بين الترفيه واستخدام الألغاز، التي "تثير في عقل الأطفال التساؤلات"، ويعتبر التراث العربي من موضوعاته المفضلة، ويعبّر عنها "بلغةٍ تصل إلى أكبر شريحة من الأطفال العرب، الذين نلمس منهم إقبالاً جيداً على قراءة مثل تلك الموضوعات".
وفي هذا السياق، يتناول إصداره الجديد "القصصجي"، الذي "لن يفهم أغلب القراء غير اللبنانيين معناه، وهنا بيت القصيد. أنا أردت تعريف القارىء الطفل عن البيئة القرويّة اللبنانية، فاخترت أن تدور الأحداث في برجا، قرية جدّتي. واخترت أن يحمل العمل نكهة لبنانية في أذواق الرسام والمدقق اللغوي والمخرج والمصمم والناشر. أتوقّع لهذا الاصدار حيزاً مهماً، وقد لاقت في في معرض القاهرة للكتاب الأخير إقبالاً شديداً".
تأثير الطفولة في لبنان
نقل الكاتب اللبناني مشاهد عاشها في طفولته بلبنان إلى متن القصص، منها: "عندما أدخلت البقرة إلى البيت"، و"عندما رفعت علم بلادي"، و"عندما سافر أبي"، و"عندما حصلت على أول سيارة"، و"عندما مات أخي"، و"عندما وضعت النعجة بالسيارة" وغيرها، وبعض أحداث هذه القصص حدثت في بلدة جدته لأمه، لالا البقاعية، حيث كان يصطاف مع العائلة بعيداً عن مدينته بيروت.
واستوحى "عادل وجريدة الصباح" من طقس والده الصباحي الذي كان يقرأ كلّ يوم "النهار" الورقيّة، فكان يعمد لتقليده والتفرج على الصور.
يستعيد طارق البكري من طفولته اللبنانية تنامي حبّه للقراءة في الظروف الأقسى التي عاشها خلال الحرب الأهليّة "كانت المدرسة على مقربة من بيتنا البيروتي، فنلجأ لها. وكثيراً ما تحتلها مجموعات مسلحة. كنا نلاحظ أنّ الأكل والأمتعة تختفي أو تتبدّل أمكنتها، إلّا المكتبة، الركن الذي لم تمسسها أعمال السلب. لذلك، حين يشتد القصف كنت أختبىء في المكتبة. انقطعت المدارس سنتين، قرأت خلالها وأنا في سنّ الـ11 كلّ كتب مخائيل نعيمة وجبران خليل جبران، فعشقت نمطه الكتابي، وحفظت "المواكب" قصيدته المطوّلة الرائعة".
الانتشار العربي
أدرجت العديد الدول العربية قصصاً لطارق البكري، لتكون ضمن المنهج الدراسي الرسمي، ومن تلك المناهج كتب مدرسيّة في الكويت وسوريا وقطر وفلسطين والمغرب والجزائر ولبنان والإمارات العربية.
ويعتبر الكاتب أنّ اللغة الفصحى هي جواز عبوره للطفل العربيّ "لست ضدّ الكتابة باللهجة العاميّة، ولكن لو اعتمدتُ العامية لبقيت مؤلّفاتي محصورة في نطاق محليّ، وما وصلت إلى بقية الأطفال العرب".
وساعد طارق البكري انتقاله للكويت في عام 1993 بدعوة من جريدة "الأنباء" باكتشاف الشغف، والانفتاح على القارىء العربيّ من بوابة الخليج "في تلك المرحلة، تيقّنت من أنّني أحبّ العمل مع فئة الأطفال. عشتُ فترات العزّ في الصحافة، حين كان يتخطّى عدد الصفحات في الجريدة اليوميّة الـ100. لكنني فضلت الكتابة في أقسام الأسرة والمجتمع والثقافة، إلى أن أطلقت صفحة يوميّة للطفل في "الأنباء" تحت عنوان "ممنوع على الكبار"، كانت الوحيدة من نوعها في العالم العربي" وأعطى على تلك الصفحات أدواراً للطفل: طفل يكتب، طفل يعطي شهادة، طفل يجري المقابلات.
ثم خرج البكري من النمط اليومي المعتاد إلى المجلات الأسبوعية والشهرية الكويتيّة، أمثال مجلة "براعم الايمان"، و"العربي الصغير"، و"سعد"، وتولى تحرير مجلة "كونا الصغير"، والإصدارات الخاصة في "القبس"، حيث غدت موجهة للأطفال.
والجدير بالاشارة أنّ حضور طارق البكري عربيّاً عزّزته رواية "الأبيض لا يليق بكم" (طبعة أولى 2017)، التي انتشرت بـ12 طبعة. وتروي القصّة مأساة عاشها إثر معاناة ابنه منير مع المرض، انتهت بوفاته نتيجة عدة أخطاء طبيّة. وعبّرت آراء عن أسلوب البكري في الرواية بـ"أنا أب بقلب أم".
في هذا السياق، يلفت البكري إلى أنّه يتناول النص الطّفليّ عموماً كـ"نصّ أدبي، لأنّ الأدب هو واحد من الفنون التي تعرفك على الجمال. وقدرة العلاقة بين الكاتب والنص نقيسها في قدرته على إشاعة الجمال عند القارئ. إن لم أرتق بذوق الطفل وخيال الطفل ولغة الطفل، أكون قد فشلت في مهمتي".
ويتابع: "بعض الكتاب يقولون: في داخلي طفل صغير. أنا لا أشعر ذلك، أنا في داخلي رجل في سني، وخبرتي وتجربتي في الحياة. وأريد أن أنقل هذه التجربة للطفل".
ختاماً، نعود مع طارق البكري إلى الهاجس الّذي يستولى على أولياء أمور من زوار "الشارقة القرائي" وفي الوطن العربي عموماً: كيف نجذب الطفل للكتاب؟
يجيب "القراءة عملية تعودية. يسألني العديد من الأهالي: كيف أجعل طفلي يقرأ؟، فأجيبه: هل تقرأ أنت؟"
المعادلة بسيطة وعلينا البدء منها: "أهل يقرؤون، طفل يقرأ".