النهار

نقاط الوعي على حروف الثورة في كتاب "فلسفة التمرّد والثورة" للبروفسور فيليب سالم
المصدر: "النهار"
نقاط الوعي على حروف الثورة في كتاب "فلسفة التمرّد والثورة" للبروفسور فيليب سالم
غلاف كتاب "فلسفة التمرّد والثورة" للبروفسور فيليب سالم.
A+   A-
يوسف طراد
 
يُعدّ الدم في علم التشريح نسيجاً (tissue) وليس سائلاً، ولأنّ البروفسور فيليب سالم يؤمن بأنّ الدم الذي يجري في أوردة اللبنانيين جميعاً دمٌ واحدٌ، فقد نسج كتابه "فلسفة التمرّد والثورة" الصادر ضمن منشورات دار سائر المشرق، على صنّارتين: (الحقيقة، والوطنيّة)، وخيطٍ واحدٍ هو الثورة الحضاريّة وصولاً إلى الدولة المدنيّة.
 
ينتمي الكتاب إلى أدب المقالة السياسيّة، فقد احتوى على ٤٨ مقالاً، سبعة منها تحدّثت عن المؤلّف وهي تعود إلى: مي الريحاني، جوزيف أبي ضاهر، أنور حرب، وسطّر روان وجوزيف باسيل مقالاً واحداً، واثنان منها لأسعد الخوري، وقراءة في كتاب بالإنكليزيّة عن حياة ورؤية البروفسور سالم، نُشرت في مجلّة الأفكار – بيروت بتاريخ ٢٤/١٠/٢٠١٣، وآخَر عبارة عن حديث أجراه معه إيلي القصيفي وقد نُشر في موقع "أساس ميديا" بتاريخ ١٦/ ٦/ ٢٠٢٠. أمّا بقية المقالات فتعود لفيليب سالم نفسه، وقد ألقاها في مناسبات سياسيّة وتربويّة ونُشر معظمها في جريدة "النهار".
 
أُدرجت مقالات فيليب سالم ضمن الكتاب بالترتيب الزمني العكسي، اعتباراً من تاريخ ٥/٥/٢٠٢٢ حتّى تاريخ ١٥/١٠/٢٠١٠، وكانت حصّة حقبة ما قبل ثورة ١٧ تشرين ٢٦ مقالاً، أمّا حقبة ما بعد الثورة فكانت حصّتها ١٤ مقالاً.
 
ميزة الكتاب أنّك تستطيع قراءته طرداً أو عكساً أو انتقاءً. فإذا ابتدأت القراءة من آخره تجد الكاتب قد علّل جميع الأسباب التّي أدّت إلى الثورة، أمّا إذا قرأته من أوّله فتجد النصح المفيد الهادف إلى الحفاظ على الثورة الحضارية من دون عنف، وتتشوّق لمعرفة عن ماذا تكلّم سالم قبل الثورة. وإذا انتقيت مقالاً تجد فحواه كافياً ووافياً، يحاكي المناسبة التي أُلقي فيها بكلّ أمانة.
 
لقد سبق أن جمع بطرس العنداري في الجزء الثاني من كتاب "فيليب سالم الإنسان – الوطن – العِلم" الصادر ضمن منشورات دار النضال، المحاضرات التّي ألقاها العالِم والمواقف الثابتة التّي اتّسم بها، ومقالات كتبها في افتتاحيّات الصحف، وخاصّة جريدة "النهار" اللبنانيّة، وكان أول مقال في هذا الكتاب عن ابن سينا، وقد أدرجته اليونيسكو مع غيره من المقالات في كتاب خاص عام ١٩٧٢. أمّا آخر مقال بعنوان "لبنان الرسالة، ماذا بقي منه؟" فقد نُشر في افتتاحية "النهار" اللبنانية بتاريخ ١٢/٧/١٩٩٩.
 
استمر فيليب سالم مُذ بدأ بإلقاء محاضرات تربويّة وسياسيّة في الجامعات والمحافل الدوليّة وكتابة مقالات صحافيّة، بعرض الواقع السياسي المزري في لبنان، موصِّفاً الحياة المسمّاة اصطلاحاً ديموقراطيّة، والتي تكاد تجثو على رخام العلاقات السياسيّة الزائفة، بين طغمة من حكّام ومستوزرين ونوّاب اعتلوا على أكتاف الشعب المنهك بشعارات تغييريّة فارغة من أيّ مضمون. وقد ظهر هذا جلياً في كتاب العنداري "فيليب سالم، الإنسان – الوطن – العِلم"، وفي كتاب سالم "فلسفة التمرّد والثورة". فإن كان الكتاب الأخير موجهاً إلى الثورة والثوار قبل وبعد ١٧ تشرين ٢٠١٩، فإنّنا نستشفّ الدعوة إلى الثورة الحضاريّة في كلّ مقال أُدرج في كتاب العنداري.
 
عند كلّ عناق هلال مع صليب، يَظهر إصرار فيليب سالم، على أن يكون الشعب وفياً للوطن الرسالة، والإنسانيّة، والعلم، والثقافة، مع وفائه للمسجد والكنيسة: "... وعلى الرغم من كل الحروب التي مرَّ بها، لا تزال المسيحيّة تُعانقُ الإسلام وتُواصل الثقافات الشرقيّة احتضان الثقافات الغربيّة." (صفحة ٣٣). وعن اتّفاقية القاهرة قال في الصّفحة نفسها: "كانت هذه الاتّفاقية بمثابة إعلانٍ واضح عن الانهيار التدريجي للبنان من دولة ذات سيادة إلى دولة فاشلة". وقد علّل في كثير من صفحات الكتاب، الأسباب السياسية والماليّة التّي أدّت إلى هذا الانهيار.
 
محاولاً انتشال لبنان من الحضن الفارسي، أكّد سالم هويّة لبنان من دون أي التباس، مع الحفاظ على دوره الثقافي، مستدركاً انتفاء هذا الدور في حال دمجه مع محيطه: "لبنان عربي من الرأس إلى أخمص القدمين ويجب أن يستمرَّ في كونه عضواً فاعلاً في جامعة الدول العربية. لكننا نرفض رفضاً قاطعاً أن يذوب لبنان يوماً ما وينصهر في العالم العربي. يجب أن يظلّ دائماً دولة مستقلة ذات سيادة". (صفحة ٣٩).
 
لسالم مواقف عديدة ثابتة من مجمل القضايا المحيطة بنا والتي تؤثّر على الوضع اللبناني: "إن الصهيونية العالمية قد نجحت في اغتصاب العقل في الغرب قبل أن تغتصب الأرض في الشرق" (صفحة ١٠٨). كما له مواقف وطنيّة ثابتة من القضايا الداخليّة، فبالرغم من تحميله "حزب الله" النسبة الكبيرة من الانهيار الحاصل، فقد أعطاه حقه خلال مقاومته للعدو الاسرائيلي: "نحن نحترم حزب الله ونحترم رجاله. ولن ننسى تحريره أرض الجنوب من العدو الإسرائيلي، لذا نقف بإجلال أمام شهدائه. إلّا أننا لن نسمح له بإلغاء دور لبنان العظيم في الشرق وفي العالم. نحن على اختلاف عميق مع فلسفة الثورة الإسلامية الإيرانية. فنحن لا نؤمن بمزج الدين بالسياسة" (صفحة ٨١).
 
لقد كان للثورة في الكتاب حصّة الأسد، فقد دعا سالم إلى ثورة تتحقق في كلِّ فعل لا يتّسم بجمود اللحظة الإنسانيّة، وبانعتاق كليّ عن الآليّات المعقّدة للمنظور السياسي الاجتماعي والتربوي اللّبناني: "... إذن تعالوا لنقوم بالثورة الحقيقيّة الوحيدة القادرة على خلق عقلٍ جديد: إطاحة فلسفة تربوية تخنق جامعاتنا ومؤسساتنا التعليمية وقيام فلسفة جديدة ذات رؤية جديدة" (صفحة ١٢١).
أعطى سالم نصائح وإرشادات عديدة للثوار، محاولاً تصحيح مسار الثورة، ناصحاً بالحراك السلمي الحضاري بعيداً عن العنف، لأنّ الثورة لا تستقيم بالحراك العنفي، وفق المفهوم الكلاسيكي التقليدي لمنظومة الصراع بين الحق والباطل، بل بالحراك الحضاري النابع من العِلم والثقافة والحس الوطني: "أيّها الثوار، لا تخافوا الظلمة، حدّقوا في الضوء البعيد في آخر النفق، وتقدّموا نحوه. إنّ الضوء ينتظركم" (صفحة ٦٥). "تحديد قيادة تنفيذية للثورة... على القيادة أن تحدد رؤية واضحة للثورة. إنه لمهم أن تعرف ماذا لا تريد، ولكن الأهم هو أن تعرف ماذا تريد. لقد عرفنا ما لا تريده الثورة ولكننا ما نزال نجهل ماذا تريد؟ أية رؤية لمستقبل لبنان؟" (صفحة ٦٣).
 
بالرغم أنّ للكتاب لغة سياسية بامتياز، لم تخلُ صفحاته من الخواطر الوجدانيّة: "أنا لم أرَ في طبّي جرحاً مسيحياً وجرحاً مسلماً" (صفحة ١١٥).
 
هذا ببساطة ما رآه العالِم الرصين فيليب سالم، وهو يجلي بصره في كينونة هذه الطبقة السياسية، وفي تخاذلها الوطني، وعدميتها في محاربة الفساد، وتواطئها الثابت في قتل أحلام هذا الشعب البائس، من أجل اكتناز ما سُرق منذ ثلاثة عقود ونيّف، من دون وجَل أو خوف من شعب غافل عن حقوقه، يتقن فقط لغة رديئة تمجّد الزعيم وتثبّط الهمم.
 
لنتأمّل مليّاً في ما قاله البروفيسور فيليب سالم، في الصفحة ١٣٥ من هذا الكتاب: "تعالوا نركع في أعماق أعماقنا، ونعترف بخطايانا، ونعلن توبتنا. عندذاك فقط نرتفع إلى طهارتنا ونعود إلى حقيقتنا. عندذاك نستحق لبناننا. فقط عندما نقدّس هذه الأرض ونعلن الولاء المطلق للوطن لا لغيره يقوم لبنان من موته".

اقرأ في النهار Premium