معن بشور
أكمل حليم بركات عامه التسعين ورحل، بعد حياة حافلة بالعطاء الفكري والثقافي والاجتماعي والأدبي الزاخر على مدى سبعين عاماً. وكان أستاذاً وباحثاً في أهم جامعات الولايات المتحدة. وكان من أبرز الوجوه الثقافية الاغترابية العربية التي تركت صداقات وكتابات وأبحاثاً وبصمات في الوطن والمهجر.
ولد حليم بركات في بلدة الكفرون الجميلة الوادعة على الساحل السوري، ليعيش بعدها في مدارس بيروت وجامعاتها، فنجح في الجمع بين الروح العلمية الدقيقة والعقل الانفتاحي المتمرّد على كل القيود التي تنمو مع العصبيات الضيقة الحزبية أو الطائفية أو المذهبية.
بدأت علاقتي به تلميذاً في الثانوية العامة (I.C) في أواخر خمسينيات القرن الماضي، حيث كان يدرّسنا الأدب العربي، وكان له تأثير كبير في مساري الثقافي وتعريفي بإبداعات أدباء كبار مثل أدونيس وجبرا ابراهيم جبرا، وما زلت أحفظ لأدونيس قصيدة "المشرّدين" ومطلعها:
"في أول العام الجديد
آهاتنا قالت لنا
شدّوا الرحال إلى بعيد أو فاسكنوا خيم الجليد
فبلادكم ليست هنا".. وهي قصيدة عمّقت إحساسي بحجم الظلم الذي تعرّض له الشعب الفلسطيني العظيم وكل مواطن عربي عانى من التشرّد واللجوء.
حليم بركات الذي بدأ حياته روائياً متألقاً تركت روايته "الصمت والمطر" الصادرة عام 1958 أثراً جعلني أكتب قصتي القصيرة الوحيدة " من وحي الأوراس" عن الثورة الجزائرية التي شجّعني حليم بركات كثيراً على نشرها في مجلة "صوت الشباب" التي كانت تصدر عن "جمعية الشباب العربي" في المدرسة التي كان لي شرف ترؤسها فيما بعد بالتزكية.
وبعد أن غادر بركات لبنان لمتابعة دراساته العليا، كنت أتابع إنتاجه الأدبي والعلمي الغزير، لا سيّما كتابه المهم "المجتمع العربي المعاصر" الذي حرصنا على مناقشته في دار الندوة، التي كان يرأسها الأستاذ الكبير الراحل منح الصلح، وبحضور بركات وحضور حشد من النخب الثقافية في بيروت. وهو الكتاب الشامل في معالجاته والعلمي في نهجه. وأذكر كم كان الراحل الدكتور خير الدين حسيب حريصاً على إشراكه في العديد من ندوات مركز دراسات الوحدة العربية، لا سيّما المتعلّقة بالمشروع النهضوي العربي.
رحم الله أستاذي وصديقي والقامة الثقافية والفكرية العالية الدكتور حليم بركات الذي لم يكن مجرد كاتب بل مكتبة زاخرة بأرقى الإنتاج الإبداعي. وعزائي الخاص لكل أصدقائه وفي طليعتهم الأستاذ الكبير الدكتور منير بشور الذي كان بركات لا يفارقه حين يزور بيروت.