طوني عطا الله
كتاب الدكتور أنطوان مسرّة الصادر حديثاً بعنوان: "الدولة والعيش معاً: ثقافة، ذاكرة، تربية" يحمل مساهمة واعدة هي أساسية، مجددة، وعملية بعد سنوات من الكوارث والمجازفات والمعاناة والذاكرة المشتتة في سبيل العمل المشترك على بناء ثقافة الدولة التي تفتقر إليها كتابات مؤلفين ومفكرين وغائبة عن الإدراك الجماعي في لبنان.
تتصدّر الكتاب عبارة تختصر كل روحيته والأفكار الرئيسية التي شكّلت مصدره الأول: الدولة هي الضمانة القصوى للعيش المشترك والسلم الأهلي الدائم. ترد هذه إلى جانب كلمتي تقديم إحداهما للأب سليم دكاش اليسوعي، رئيس جامعة القديس يوسف، ولوزير التربية والتعليم العالي القاضي عباس الحلبي.
صدر الكتاب عن كرسي اليونسكو لدراسة الأديان المقارنة والوساطة والحوار في جامعة القديس يوسف وجمعية "تصالح"، بدعم من مؤسسة غزال للتربية والبحث العلمي والسلم في لبنان، بيروت، 2023، 160 ص بالعربية و224 ص بالفرنسية.
ينطلق الكتاب من ملاحظة دقيقة للمؤرخ الفرنسي الشهير Dominique Chevallier مفادها أن "الدولة اللبنانية مغيّبة في التاريخ اللبناني"، ويرد أن أساسات العيش معاً لا تُختزل في حوار وتواصل وصورة الآخر. يطرح الكتاب إذن موضوع الدولة لبنانياً في ثلاث معضلات تتطلب بناءً نظرياً في أنتروبولوجيا الدولة ونشوئها لبنانياً وبرامج تطبيقية:
– الأولى تجيب عن سؤال حول نشوء الدولة وسيادتها بوصفها ليست مكتملة الصفات الأساسية المسماة ملكية: احتكار القوة المنظمة، احتكار العلاقات الديبلوماسية، فرض وجباية الضرائب، إدارة السياسات العامة.
– الثانية تتناول الدولة في علم النفس التاريخي اللبناني وكأنها جسم خارجي حيث تستمع الى خطاب وزير ونائب يتوجه الى "الدولة" ويتهمها كأنه غريب عنها. يُعاني اللبناني في علم النفس العيادي من انفصام في الشخصية اذ يطالب من جهة بدولة قوية وهو مُتمسّك من جهة أخرى غريزياً بالحريات ويساوم حول سيادة الدولة المولجة أساساً بفعالية القانون.
– والثالثة دولنة الثقافة السياسية ضماناً لوحدانية الدولة وشرعيتها وبفضل برامج تربوية تطبيقية. يوجب ذلك مزيداً من التعمق في تعليم الحقوق وكل الاختصاصات التعليمية وخاصة منهجية التأريخ اللبناني بمنهجية علمية واقعية وإعداد كراسات ثقافية وتربوية حول أبرز القضايا في ما يتعلق بنشوء الدولة لبنانياً: معنى دولة، الدولة في إعلان دولة لبنان الكبير سنة 1920، ما الذي تغيّر بعد الاستقلال في 22/11/1943: السيادة، حكومة وطنية، أمن، قضاء، جمارك، عملة وطنية...، تاريخ الدولة في لبنان وتاريخ النظام الدستوري فيه كما نرويه لأولادنا، نهضة ومصائب الدولة اللبنانية: 1943-2020، التزام حياد لبنان وجذوره التأسيسية...
تحت عنوان: "الدولة اللبنانية واقعاً ملموساً: دليل في خطط وبرامج"، يكتب الأب سليم دكاش في مقدمة الكتاب: "هذا المؤلف يردم ثغرة في معضلة الدولة التي يتعطش إليها اللبنانيون ويفتقرون إلى ثقافتها في المدارس والتربية المدنية". ويقول وزير التربية والتعليم العالي عباس الحلبي في تقديم الكتاب: "لا توجد أوطان فاشلة، بل أوطان فشلنا في حبها حيث تغيب ثقافة الدولة عن الخطاب اللبناني".
يتضمن الكتاب ثلاثة أقسام: 1. الشروط المسبقة لإمكانية حوكمة لبنان gouvernabilité في وحدته وتعدديته، 2. إشكالات علم النفس التاريخي اللبناني وتأريخ نشوء الدولة لبنانياً، 3. الأعمال التربوية التي سوف يعمل البرنامج على إنتاجها وتطبيقها في مؤسسات تربوية.
في زمن حيث يطلق غالباً مفهوم المواطنية كشعار بدون تحديد مضامينه وشروطه وتطبيقاته، ترد في الكتاب المكوّنات الثلاثة في المفهوم: العلاقة بالجغرافيا، والعلاقة بين المواطنين في هذه الجغرافيا، والعلاقة بالدولة الناظمة للشأن العام في هذه الجغرافيا وهؤلاء المواطنين.
يتضمن الكتاب شواهد عديدة مستخرجة من التراث اللبناني والاختبار وتبرر جهداً وطنياً في مثاقفة الدولة لبنانياً، وخاصة من خلال "تأريخ علمي واقعي" في آن واحد، وإحياء مفهوم السلطة الناظمة للمعايير حسب المفهوم الروماني (auctoritas وليس potestas) من خلال مختلف محاور التنشئة وخاصة العائلة والمدرسة.