يوظّف مكرم رباح في كتابه الأكاديميّ "النّزاع على جبل لبنان " (دار أمم ودور نشر أخرى، 2022) المنهجيّة الإشكاليّة ليتقدّم خطوة معرفيّة إلى الأمام نحو المتلقّي، فقد استمدّ في أطروحته المترجمة عن اللغة الإنجليزيّة (تر.د.رلى ذبيان) كلّ ما اختزنته أمّهات الكتب التاريخيّة المعاصرة التي حضنت تاريخ لبنان، لاسيّما حرب الجبل ببعدَيها الزمنيّين القديم 1860 والعصري عام 1982، مضيفاً إليها النسق الإشكاليّ الآتي: كيف ساهمت الذاكرة الجماعيّة في احتواء سرديّة الحرب، ما دفعه الى توظيف التاريخ الشفويّ كتقنيّة علميّة جديدة مساعِدة على نقد المرحلة وفتح النقاش اللانهائيّ حولها؟
البحث بين شكليّاته المنظّمة والإسهاب...
في منطق القراءة البحثيّة لا يمكن محاكمة البحث أو محاكاته من خلال قراءة شموليّة شاملة للفصول، بل يتطلّب من المتلقّي أن يتوقّف عند الصفحات كالصفحتين ١٨٨-١٨٩ اللتين صاغتا مشهد الاقتتال بشكل دراماتيكيّ تشعرك أسلوبيًّا وكأنّك في قلب المعركة. أمّا الصفحتان ١٤٠-١٤١ فتضمّان خزّاناً معرفيّاً مكثّفاً عن الطائفة الدرزيّة، وتشكّلها ونظامها الداخليّ مجتمعيًّا، ما يقودنا الى كتاب رباح، حيث كانت الفصول الثلاثة الأولى ثقيلة معرفيًّا على المتلقّي، لذيذة على المتلقّي المختصّ كونها فصولاً معرفيّة بمثابة مستندات أو مخطّطات تظهر لنا مفاتيح ومفاهيم لم نتعمّق قطّ بأبعادها، ما جعلها كلمات البحث المفتاحيّة: "الذاكرة الجماعيّة"، التاريخ الشفويّ على سبيل المثال لا الحصر ليكون الفصلان الأوّل والثاني مكتوبَين بلغة كثيفة سرداً، فيها من الإسهاب الكثير، ما جعلنا أمام سياق مركّب يحتاج إلى تبحّر وخلفيّة تخصصيّة لفهم ما يحاول الباحث قوله، وهذه النقطة لا يُحسد الباحث، إلّا أنّ الضارّة صارت نافعة حين فصّل رباح بعض المفاهيم الأكاديميّة مخصّصاً التقديم لمساحة الأطروحة الأصليّة، (أي ترك الباحث المقدّمة والمخطّط والمسار البحثيّ كي يضمن عمليّة تلقّي إيجابيّة).
أمّا الفصول المتبقّية فهي كناية عن عقد يتمّم زمنيًاً بعضه بعضاً، ومعرفيًّا هو محكوم بتماسك من قبل المقابلات والشهادات والصور التي تُنسي القارئ ضخامة البحث ما يعطيه دفعاً لإكمال القراءة.
ولعلّ الصور المنشورة بكثافة بين فصل وآخر، وخلال سرد تفاصيل كلّ فصل تنقلنا من الإنصات المتخيّل للحدث شفويًّا، وقراءته تشكّل مؤثراً بصريّاً يحافظ على عمليّة التلقّي، بل يطوّر من وجود القارئ في صناعة قصديّة البحث وغايته الإشكاليّة. لكن غاب عن رباح تدوين الأسماء في بعض الصور أو الجهات الدالّة على الشخصيات خصوصاً في صور الفصول وبعض الصور في متن البحث.
كلّ ذلك كان ضمن قالب متسلسل زمنيًّا مصحوب بشهادات وتوثيق كلاسيكيّ يسير على المتلقّي بدلاً من التوثيق الأكاديميّ المعتمد حاليّاً (APA)، فضلاً عن تخصيص مساحة شاسعة للصور المستمدّة من أرشيفات الصحف وماكينات الحزبين المتقاتلين الإعلاميّة.
الكاتب مكرم رباح.
الجوهر حيث الجديد وتجديد القديم
لا ريب أنّ الصيغة الانطباعيّة تجاه هذا الكتاب ليست موحّدة لدى القرّاء، لكنّ النفس الأبستمولوجيّ (المعرفيّ) ثابت في الكتاب، والمتغيّر عن باقي الكتب أنّ الباحث كتب بقلمين: الأوّل السرديّ التذكيريّ التوكيديّ، حيث تواترت الأحداث المعروفة كمجزرة إهدن وتهجير الموارنة وغيرها، أمّا الثاني فالنقديّ المعرفيّ حيث ذكر رباح الأسباب الحقيقية مثلاً لمجزرة إهدن التي يحذفها العامّة من مرويّاتهم الشفويّة، وهي التي ولدت نتيجة الأخذ بالثأر بعد هجوم على قياديّ كتائبيّ واغتياله، فضلاً عن تسليط الضوء على مرحلة توحيد البندقيّة التي أفرزت شرخاً بين بشير الجميّل وداني شمعون.
واللافت أنّ المعلومات المقدّمة كانت في بعضها لافتة كأصل الفينيقيّة العربيّ، وشرح كلمة فينيكس التي تعني النخيل الذي لم يثمر سوى في شبه الجزيرة العربيّة، عوامل بطبيعتها تحسب للباحث الذي كثّف من سرده وحاول ربط المشهديّات بسياق واحد، لكنّ طبيعة الفصول وازدحام الشهادات والمرويّات، ولجوئه في مطلع البحث إلى التحليل السيكولوجيّ المقارن بين خطاب القياديّ بول عنداري من جهة، ومن ثمّ تكرار هذا التحليل مع تشريح الفكر الراديكاليّ الأصوليّ بيمينيّته لجوسلين الخويري من جهة ثانية، فضلاً عن ذكر أشكال الحملات الدعائيّة بين الموارنة والدروز التي جعلت رباح مرتبكاً ازاء تبسيط السياقات، فدفعته إلى تكرار بعض المعلومات والمسمّى افتراضاً تكراراً روائيّاً ليحمي المتلقّي من النسيان.
يعدّ هذا الكتاب باختصار عتبة لقراءة التاريخ اللبنانيّ الحديث بعيون حواريّة جديدة، كونه يتّكئ على الشهادات الشفويّة التي تحيلنا إلى التحليل النفسيّ والسيميائيّ لأحداث كثيرة.