أنطوان أبو زيد
ثمة من الكتب ما لا تقوى على صدّه أو نسيان الالتفات اليه حتّى تنتهي من قراءته، وهو الكتاب السيرة الذي أعدّته الصحافية كارول داغر عن الأب اليسوعي الهولندي نقولا كلويترز، والذي مضى على مقتله، في البقاع الشمالي، حيث كان يعمل ثمانية وثلاثون عاما. وها هنا استعادة لأهمّ ما تضمّنته هذه السيرة.
إذا، يرسم الكتاب الصادر حديثا عن دار المشرق (2022) مساراً سرديا لهذا الشاب الهولندي، المولود في مدينة دلفت الهولندية في الخامس والعشرين من أيار العام (1940)، من عائلة كانت لا تزال تعاني مرارات الاحتلال النازي للبلاد، إبان الحرب العالمية الثانية، ولم تنعم بالتحرير إلاّ في العام 1945. ولئن أُدخل نقولا طفلاً الى مدرسة كاثوليكية، وخضع لتعليم تقليدي، فإنّ ميلَه الى الفنون والرسم دفعه الى اتخاذ سبيل آخر في الإعداد، إذ التحق بمعهد مولو الفني، وأنجز فيه البكالوريا الفنية.
ومن ثمّ دخل الأكاديمية الملَكية للفنون الجميلة في لاهاي، وكان أصغر الطلاّب عمرا (1958-1959)، ونال الشهادة المهنية في الرسم العام 1961. ولم تثنه الخدمة العسكرية الإجبارية، لسنتين تاليتين عن مطالعة العهد الجديد، والانصراف الى التأمّل في إيمانه المسيحي الذي كان قد ورثه من والديه، على بساطته.
وتروي لنا الكاتبة، كارول داغر، بالاستناد الى متابعات طويلة، ولقاءات مع المسؤولين في الرهبنة اليسوعية، مثل الاب توم سيكينغ، وبول براورز، والأخ طوني عون، وراهبات القلبين الأقدسين، الذين رافقوا الأب كلويترز في سنوات عطائه (1975-1985) في لبنان، ولا سيّما في قرية برقا، وجوارها، وحتى استشهاده بعمر الخامسة والأربعين، أهمّ المحطّات والتحدّيات التي لازمت رحلة عمره القصيرة، ولكن المفعمة بالنفحة الخلاصية التي لطالما سعى الى تحقيقها.
تحكي الفصول الأولى من الكتاب، الى نشأة الشاب كلويترز وتخرّجه تقنيا في الرسم، عن شوقه الى المزيد من التعمّق الروحي؛ فمضى، قبيل تخرّجه، الى مدينة تيزيه الفرنسية، يستطلع فيها نهضتها اللاهوتية التي صارت ملهمةً للكنيسة الكاثوليكية، ولا سيما المجمع الفاتيكاني الثاني، حيث شددت على حوار الأديان، والدفاع عن الفقراء في العالم.
ومنذئذ، والشاب نقولا يزداد حبا بالمسيح وشوقا الى خدمة فقراء الكنيسة، والتعرّف بعمق الى الآخر المختلف (المسلم) والتحاور معه. ولا يزال حتّى ارتبط نهائيا بالرهبانية اليسوعية، مبرزا نذور الفقر والعفة والطاعة، في 8 أيلول من العام 1967، بعد سنتين من الاعداد الروحي والمعرفي. ولم يلبث أن أرسل إلى لبنان، في العام التالي (1968) من أجل أن يوثّق معرفته لهذا البلد، ويتقن اللغة العربية فيه باعتبارها جسر التواصل مع الآخر (المسلم)، وسبيلا الى تيسير الخدمة التي يزمع تأديتها للفقراء في هذه البلاد. وعليه، أرسل نقولا الى دير تعنايل للآباء اليسوعيين، ومن هناك وسّع نقولا نشاطه الاجتماعي الخيري والحرّ ليشمل الجنوب، مشاركا في الأعمال التطوّعية التي أشرفت عليها الحركة الاجتماعية، فكانت خير إطار لفهم مشاكل الناس وتطلّعات الشباب، والتواصل الحيّ مع الآخر المسلم والفقير الشيعي.
ثمّ إنّه، وبعد سنوات من الاسفار والخبرات في لبنان ودول أوروبية عديدة، ممهورة بنشاطه الفنّي ومعارضه العديدة، وموشحة بالاستعداد الروحي، سيمَ كاهنا، في 9 حزيران من العام 1973، وهو في الثالثة والثلاثين من عمره.
ولم تمضِ سنة حتّى حطّ رحاله في لبنان، في أيلول من العام 1974، ليباشر عمله الرسولي انطلاقا من دير تعنايل للآباء اليسوعيين، وهو كناية عن أرض تبلغ مساحتها 230 دونما، منحها لهم الاتراك تعويضا عن مقتل ستة من الرهبان اليسوعيين في مذابح العام 1860، وكانت أرض مستنقعات، عمل اليسوعيون على استصلاحها وتحويلها الى مزرعة نموذجية من حيث انتاج البقول وزراعة شتى أنواع الخضار، وتربية المواشي والعناية بها. ولم تكن الأوبئة ولا المجاعة ولا الحروب ولا التحوّلات السياسية الجارية في البلاد لتضعف من عزيمتهم، أو لتدفعهم الى مبارحة المكان والتنكّر لإخوانهم في الإنسانية والإيمان.
ولمّا سأل الكاهن اليسوعي الشاب عن المنطقة التي تحتاج الى الخدمة أكثر من غيرها، قيل له إنّ قرى الهرمل (القاع، إيعات، وادي الرطل)، ودير الأحمر (نيحا، القدّام، برقا، زرازير، بيت بو صليبي، بتدعي، أناتا، شليفا) وحدث بعلبك، هي نطاق عمله، وأنّ المسيحيين فيها يحتاجون الى وجود كهنة يرعون شؤونهم الروحية في أكثر المناطق حرماناً من خدمات المؤسسات الرسمية، على جميع الأصعدة. إلاّ أنّ حدسَ الأب نقولا معطوفة على الدراسات الاجتماعية الميدانية التي أعدت عن تلك القرى، بيّنا له أنّ قرية برقا وقرى أخرى في جوارها، كانت أشدّ القرى فقراً، بحيث لم يقو أبناؤها على توفير مسكن لكاهن يزورها في الآحاد والاعياد، وأنّ الناس فيها، المنسيين من البشر والله، ينادونه. وهكذا كان.
وحتّى ينال تفويضا كنسيا رسميا، رأى ان يتّصل بالمطران شكر الله حرب، أواخر أيلول من العام 1974، يعلمه فيها بقصده المباشرة بعمله الرعائي في القرى المذكورة. ومن ثمّ انطلق الأب نقولا الى مهمّاته المستحيلة، في البدء؛ وأولاها أن يوحّد قلوب أهالي القرية التي استقرّ فيها، ولم يكن له بعد غرفة يقيم فيها، إذ كانت لا تزال العشائرية والعائلية مسيطرة على النفوس، وحتّى الاحتفال بالقداس الإلهي كان يجري في كنيستين، لكل عشيرة كنيسة لئلا يختلط المؤمنون بعضهم ببعض. ومن ناحية أخرى، كان لا يزال السكّان فقراء، معدمين، ولا يقوون على العناية بأرزاقهم التي تمتدّ في الجرود العالية، وصولا الى الأرز، وبشرّي منبتهم الأصليّ.
وعندئذِ، أدرك الأب نقولا كلويترز أنّ الطريق لا يزال طويلا، وأنّ درب الآلام، الذي انطبعت صورته في صميم وجدانه منذ كان فتىً-على ما تقول أمّ الشهيد لاحقا- لا يزال في مستهلّه. وقد أضيف إليها مخاطر الحرب الأهلية التي اندلعت يوم 13 نيسان من العام 1975، وأدّت الى اشتداد العصبيات الطائفية، وتفجّر الانقسام السياسي وسقوط عشرات آلاف القتلى على خطوط التماس في مدينة بيروت، وضواحيها، وفي المدن والبلدات في سائر المحافظات بلبنان. وسط هذه التحدّيات الهائلة، الأشبه بالأنواء الرهيبة تهبّ على سفينة المؤمنين والسيّد المسيح غافٍ الى حين، والاضطراب بالغٌ ذروته. فهل كان الاب نقولا كلويترز ليعود أدراجه؟ أو يستقيل من مهامّه التي نذر نفسه لها منذ البداية، أن يكون ناشطاً في خدمة الفقراء، وبانياً للجسور مع إخوانه المسلمين؟ أم يدع أهالي برقا والجوار رهنَ تقوقعهم وخلافاتهم وفقرهم وتخلّف مدارسهم، وحرمانهم من أبسط حقوقهم في المياه، والتنقّل، والرعاية الصحّية، والرفاهية؟
وكان الجواب الأول عن هذه التساؤلات دفعة واحدة، على ما ترويه الكاتبة كارول داغر، في مقتل، بل شهادة الشاب غصيبة كيروز، الذي كان من فريق الاب نقولا في التعليم الديني، وهو متّجه الى قريته نبحا، وقد أعدّ رسالة يتنبّأ فيها بمقتله، ويطلب من ذويه أن يسامحوا "اللي قتلوني من كلّ قلبكن" (ص:81).
أما الجواب الثاني فقد ناله لدى التأمّلات الروحية التي انصرف اليها، في بروكسيل، وإثر الحادثة التي الزمته الفراش عام 1976 أشهرا عديدة؛ إذ توثّقت صلاته برهبانية الاخوة الصغار، وبالعديد من الجمعيات التي بدأت تُعنى بمساعدة الفقراء، وبإقامة جسور التواصل والتفاهم مع المسلمين.
غير أنّ الجواب الأكثر إقناعا وفعالية كان أن يعود الاب نقولا الى موطن الخدمة والتحدي، قرية برقا، وينطلق في عمل دؤوب لن يقف عند مقتله بعد تسع سنوات من النضال المتواصل.
خبرَ حياة الرعيان، عاش معهم، تنقّل معهم حتّى الجرود، قاسمهم آلامهم وآمالهم، وعرف أنهم أحوج الى المياه يسقون منها مواشيهم. وعايش المزارعين الصامدين في ديارهم، وأصغى الى مواجعهم ومنها شح المياه، ودوام نزاعاتهم مع جيرانهم عليها. فما كان منه إلاّ أنّ حرّك العديد من علاقاته في بلجيكا وألمانيا وغيرها من أجل جرّ مياه الينابيع الخاصة بالقرية الى الأراضي الجرداء والقابلة للزراعة، وبناء مجارٍ لها.
وحين أدرك أنّ ما من نهضة لقرية برقا من دون مدرسة تكون لائقة، وتعدّ الأجيال القادرة على استثمار خيرات الأرض، ولا تنزح الى المدينة، حيث الضياع وافراغ المنطقة من وجود مسيحي فاعل، حشدّ كلّ الجهود، وأقنع راهبات القلبين الأقدسين بإرسال ثلاث راهبات يكنّ مشرفات على إدارة المدرسة التي بناها أبناء القرية بسواعدهم، وعلى عقار تبرّعوا به للمدرسة.
ولم يزل حتّى أثار همم الشباب، في القرية والجوار، من أجل شقّ طريق ترابي تربط القرية برقا بالأراضي الزراعية الواسعة، في الأعالي. فكان له ولهم ما أرادوا، إذ شقّوا بسواعدهم، وبما توفّر لهم من أدوات، طريقا ترابيا يتيح للمزارعين نقل انتاجهم الى الأسواق.
ولمّا انتبه الأب نقولا، بعد مغالبته الشرّير ومواجهته أمواج المصاعب ونجاحه في إنهاض قرى البقاع الشمالي، ولا سيّما برقا، من وهدة الإهمال والتخلّف والفقر، واستعاد الإنسان والمؤمن فيها كرامته، وأيقن بانتهاء مهمّته، عاجلته مهمّة ثانية أسمى من الأولى: أن يضحّي بذاته في سبيل أحبّائه، وهو القائل، قبيل مقتله مساء 13 آذار من العام 1985، على يد مسلّحين مجهولين:
"يسألني (المسيح) أيضا: "أتجرؤ على اتّباعي من أجل خلاص البشرية وخلاص كلّ إنسان؟" وفيما أنا أنظر اليه بوجل، ما عساني أجيبه إلاّ هذا:"سأفعل ما بوسعي؟" أن يبذل ذاته. هذا ما بقي له" (ص:198)