جان هاشم
(...) تأكّد لي مع الوقت أنّ والدي عندما يحكي ويروي أخباره المقتطعة والمجتزَأة إنما يختار ما يساعده على إعادة صياغة ماضيه وتكوين شخصيّته بالصورة التي وَدَّ يوماً أن يكون عليها، الرجل المتعلِّم والمطّلع مع بعض أبناء جيله ممّن دخلوا عالم الكبار من غير الباب الذي دخله منه هو، أو الكاهن صاحب الموقع المحترم والمقدّر بين أبناء رعيّته، تلك الرتبة التي لفظَتْه ولَفَظها في الدير أثناء فترة اختبار دعوته الكهنوتيّة، أو ربّ العائلة الذي يخيّم برعايته على زوجةٍ وأولاد يجهد ليضمن لهم سعادةً وأماناً ومستقبلاً، والراعي الحريص على سعادة أمٍّ ترملت باكراً وعلى تأمين آخرةٍ لائقة لها ولشقيقتَيْن قُدِّر لهما أن تبقيا عانِسيْن وذكرَيْن ناقصَيْن، أو الرجل الاجتماعيّ الذي يرعى شؤون الأقارب والناس المقرَّبين والأصدقاء فينصح ويوجّه ويجد حلولاً لمشاكل ناشبة أو عالقة بين معارفه أو أنصار العيلة مستفيداً من هيبة وسطوة أكيدتَيْن كان يودّ لو أنّه اكتسبهما من مسارٍ معاكسٍ لما دفعته فيه الظروف.
تبدّى لي كلّ ذلك ليس فقط من أخباره هذه وانتقائيّته في سردها وتوقيعها، بل من تحوّلاته المتتالية وسلوكه بعد أن حسمت معه الأمر بمساعدة جوان بَيْك وأقنعناه بالانكفاء عن الانخراط في شؤون العيلة السياسيّة والأمنيّة وإفساح المجال أمام جيلنا نحن الشباب. عندما لزم البيت والتفت إلى هذه الحياة الاجتماعيّة ظهرت عليه هذه التغيّرات شيئاً فشيئاً. أصبح أكثر هدوءاً في تصرّفاته وكلامه، وزال ذلك القلق في عينَيْه فلم تعودا تتراقصان وتتلفّتان يميناً ويساراً فيما هو يحدِّث أو ينصت، وانكسرت حدّة النبرة في صوته الثَّخين حتى بات كلامه يخرج من تحت ذقنه أو عمق حلقه، فيه نفحة من ثقة في النفس ولمحة منطق خاصّ يسعى به إلى إقناع سامعيه بصوابيّة ما يتفوّه به، يطعِّم حججه وبراهينه تارةً بشيء من خبرته وطوراً بما اكتسبه من مطالعاته في أيّام دراسته التي انقطعت يوم دخل عالم الكبار، ومن مطالعاته المتأخّرة بعد أن اهتمّ بتكوين مكتبة كبيرة في البيت جمع فيها الكثير من الكتب المعروفة، مثل كتاب "نهج البلاغة" يحرص على رصفه على الرفّ بجانب الإنجيل بعهدَيْه القديم والجديد وبجانب القرآن، إضافة إلى كتب متعدِّدة في تاريخ لبنان والحرب اللبنانيّة الأخيرة وإلى مجموعات كاملة لكبار الكتاب اللبنانيّين في لبنان والمهجر مثل أمين الريحاني وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ومارون عبود وغيرهم، ناهيك عن مؤلّفات الكتّاب المحلّيّين من أبناء بلدتنا التي تكاثرت في الآونة الأخيرة، يفرد لها ركناً خاصّاً بارزاً على رفوف المكتبة ويحرص على الحصول عليها من أصحابها مباشرة إن لم تتوفَّر في المكتبات، يثني على مؤلّفيها ويبارك بهم ويهنئّهم في كل مناسبة ويبدي لهم الاحترام ويناقشهم فيها والأهمّ أنها موضع فخر له بأبناء بلدته خصوصاً إذا كانوا من عيلته أو المقرّبين منها، وعلى الأخصّ تلك التي تناولت تاريخ مروج السهل ورجالاتها الكبار في السياسة والكهنوت وأعمال المروءة والانسانيّة.
وقعَتْ بيني وبين والدي لعبة "بازلPuzzle "، بدأت قطعها الكرتونيّة المفكّكة والمقطَّعة بأشكالها المعقدّة تتكاثر أمامي من يوم أمسكت تلك الصورة عن طاولة الصالون في بيتنا القديم الصغير، وبعد خروجه فارّاً من سجنه الأخير. وعلى مدى سنين راح يتبيّن لي أنّ الصورة المكتملة والصافية التي تكوَّنت لي من تلك القطع الأولّية المتفرِّقة التي أُلقِيت لي من أترابي وأهل الحيّ وأقاربي، أو التي بدأت جمعها من مراقباتي في تلك المراحل الأولى، ثمّ في مراحل لاحقة، لم تكن سوى تلك القطع المسطورة المستقيمة في جانبٍ منها والتي يبدأ بها تركيب صورة البازل من أطرافها لتشكّل محيطاً متماسكاً لما ستكون عليه الصورة في داخلها حيث يتعقّد أكثر فأكثر تركيب الحبّات الكرتونيّة الصغيرة برؤوسها المتنافرة وفرزاتها المتخالفة وألوانها وخطوطها التي تتطلّب ذاك الجهد الجبّار لفرزها وتنسيقها والتقريب والمواءمة بينها قبل إنزالها الموقعَ الصحيح والملائم، لتخرج الصورة مكتملةً واضحة بعد غموض، كاشفة الأسرار المخبَّأة في تلك القطع المتناثرة.
اتّخذت لعبتنا هذه أشكالاً متعدّدة ومرّت بمراحل. من منافسة في سباق إلى هدفٍ ما، حدّده أبي في مكانٍ ما وأنا في مكانٍ آخر، اشتدّت أحياناً كثيرة لتتحوّل حرباً خفيّة أو مواجهة معلنة في محطّات معيّنة. ألملم القطع الكرتونيّة من هنا وهناك في صندوق اللعبة، فيما هو يعمد إلى إخفائها بطريقة أو بأخرى. أفتِّش عن إحداها فيما هو يحاول صرف اهتمامي عنها مناولاً إيّاي قطعة أخرى: "هاكَ، خود، غيرها أحسن!"، وإذ أثابر على التفتيش وأُمعِن في التفحُّص، وأخالف خطّته ينتفض قبلي، ويخرب لعبتي بإصبع تُبدِّد قطعي المجموعة، أو بكفٍّ تخبط على الطاولة لتتطاير تلك القطع ويتبدّد معها جهدي، وكلما أوشكت أن أُتِمَّ لعبتي تبقى في الصورة النهائيّة فجوات يجب ملؤها. لكن مع السنين، ستكتمل عندي الصورة ويستقرّ هو في شكلها النهائي.
تحوّلت لعبتنا "البازل" من عملية تركيبيّة مشتركة تتطلّب خطّة وتفاهماً وتعاوناً وتنسيقاً إلى ما يشبه التحدّي في مَنْ يختار القطع المناسبة ويوقّعها، أنا في المكان الواقعيّ الصحيح والمناسب، وهو في المكان المفتَرض في رأسه، ليصل كلٌّ منّا إلى صورته أوّلاً. أنا أفتّش عن أجزاء صورته، وهو يحاول تكوين صورته المرتجاة ليخلعها عليّ ويُلبِسني إياها. أرادني على صورة ومِثال الرجل الذي أراد أن يكونه لولا معاكسات الظروف. وفي ذلك خضنا سباقاً محموماً، منذ مراهقتي وتشدّده في تربيتي، وإبعادي عن كلّ أخبارٍ وأعمالٍ يمكن أن تشوّه صورته في ذهني، إلى مراحل دراستي الجامعيّة وما شهدته من مواجهات لم يكن أشدّها تلك المواجهة يوم اكتشف الكتاب اليساريّ بين أغراضي، إلى إبقاء عينيه عليّ وأنا شابّ راشد يراقب ولو من بعيد علاقاتي وسلوكي وردود فعلي على ما يجري حولنا من أحداث محاولاً إقصائي عن أجواء المشاكل بإقحام نفسه حيث يرى أنّه لا يجب أن أكون موجوداً، على مبدأ "إمّا أنا وإمّا أنتَ" أو في كلّ الأحوال وبشكلٍ قاطع "أنا وليس أنتَ".
كان لا بدّ لي أن أتبرَّم مع بداية وعيي من هذا الضغط الخانق، وتحوّل هذا التبرّم في مراحل دراستي الجامعيّة إلى تمرّد خفيّ عشت فيه تحرّراً من طوقٍ أُلْبِسْتُه، من حيث لم أدرِ ولم أُرِد، مع اسمي وانتمائي الطبيعي بحكم ولادتي في المكان الذي وُلِدت فيه. مرّات قليلة ترجمت هذا التمرّد في نقاشات حادّة معه لم تخلُ من سورات غضب منه ومنّي، أشدّها كانت يوم علِم بمشاركتي الحماسيّة في تظاهرة طلابيّة للمطالبة بتحسين أوضاع جامعتنا. ولكانت هذه المشاركة مرّت على خير لو لم تكن التظاهرة ضخمة وتخلّلتها مناوشات وتحدّيات بين الطلاب والقوى الأمنيّة جعلت وسائل الإعلام تتناولها بشكل مستفيض. شاهد أبي في صور الصحف ومشاهد التلفزيونات بعض رفاقي، ومنهم أحد أبناء بلدتنا يتحدّث إلى المذيع موضحاً المطالب. لم يرَني في المشهد لكنّه تأكّد بينه وبين نفسه أنّني كنت في محيط مَنْ هم أصحابي. وَلَمَرَّت بسلام لو لم يكن وزير التربية يومها إميل بَيْك الملاك نفسه. وإذ عدت مساء اليوم نفسه إلى البيت، كون الإضراب ظلّ مفتوحاً، لاحظ عليّ مظاهر التعب والاستياء. لم ينتظر كثيراً ليبادرني بسؤال غاضب:
- شو؟ تعبت اليوم؟ يعطيك العافية!
ولمّا لم أُجِب رفع صوته:
- قلت لك ما بدنا سياسة!
- وبالنبرة نفسها رفعت صوتي:
- أنا حرّ وبعرف شغلتي! هيدي مش سياسة! هيدي مطالب تربويّة بتتعلّق بدراستنا ومستقبلنا!
- مش سياسة؟ وعم تتظاهر ضدّ إميل بَيْك؟
- عم نتظاهر ضد الحكومة والدولة، إميل بَيْك مش وحده الحكومة والدولة.
لم يكن بحاجة إلى هذا الردّ ليعبّر عن كل ما يعتمر في قلبه وفكره. قال كلاماً كثيراً وقلت أكثر منه. علا صوتانا في أرجاء البيت ووقفت أمّي وأخواتي مشدوهات بما يجري للمرة الأولى وحائرات في ما يفعلنه. لم تجد أمّي من كلمات سوى "عارواق! وطّوا صوتكم! طولوا بالكم!". تلتفِتُ نحوي: "ولو يا أمّي، سماع بيّك شو عم يقول" ونحو أبي: "يا حبيبي روق شوي، تفاهموا عارواق! عيب"، فيصرخ أبي:
- عيب؟! العيب يطلع من تيابه، اللي بيطلع من تيابه بْيبْرُد!
- إذا هالتياب بدها تخنقني بلاها، خلّي لَكْ ياهُنْ، مخنوق ومتهنّى فِيُن من أربعين سنة.
- قلت لك صرت تعرف تاخد مواقف، وتعلي صوتك كمان.
لم تنتهِ مواجهتنا على خير كما سابقاتها. كلامٌ كبير وقع بيننا، ووقع زعلٌ. انقطع الكلام بَيْننا ليلتها، وفي اليوم التالي عدت إلى بيروت حيث بقيت مدّة أسبوعين لم أعد فيهما إلى البلدة، وشكّلت بالنسبة إليّ عطلة طويلة من مشاكل البيت وهموم والدي، أحسست في أيّامها الأولى بأنّني، في غضبتي تلك، تحرّرت إلى حدٍّ ما من ذلك الضغط، وبأنني خطوت خطوتي الأخيرة لتجاوز تلك الحدود المرسومة بين سلطة أبي وبين قراراتي الشخصيّة.
أمضيت عطلتي هذه في عزلة تامّة، الجامعة مقفلة ورفاقي كلٌّ في دياره، والنشاطات محدودة، ولم أسعَ إليها أصلاً وأنا في توتُّرٍ مستمرّ تاركاً لغضبي في الأيام الأولى أن يأخذ مداه ومقنعاً نفسي بأنّ ما وقع كان لا بدّ منه، كما لا بدّ منه إن حدث مرّة أخرى. طبعاً بيني وبين نفسي سؤال "ما الخطوة التالية؟". والجواب الأوّل المتردّد في رأسي عنه هو أنّني لن أتراجع، أيّاً تكن العواقب أو أيّاً يكن الحلّ. وفي تصوّري للحلول الممكنة تخيّلت دور أمّي وأقاربي ورفاقي، وربما تدخُّل إميل بَيْك شخصيّاً. التفكير في احتمالات الحلول بدأ يخفّف من غضبي ويحملني على التفكير العقلانيّ في الحجج التي يمكن أن أدافع بها عن موقفي وتصرّفي، وعلى تصوّر الحجج المضادّة التي يمكن أن أواجَه بها.
سيُقال لي إنّ والدك يريد لك موقعاً ومركزاً محترماً في وسط العيلة، ولذلك يشدّد على ضرورة أن تحافظ على روابطك العائليّة، وأن لا تخرج عن هذا الطوق. سيُقال لي إن والدك ضحّى وحمل على كتفيه هموم البيت وأبناء جلدته، وأنّه بما فعل اكتسب احترام الجميع وتقديرهم وهذا ما يريد أن ينقله إليك. وسيقال لي إنّه يخشى عليك وأنتَ ابنه الوحيد، وأنّه لا يريد التحكّم بك بقدر ما يريد حمايتك، ولذلك يخاف عليك أن توقع نفسك في ورطةٍ ما وأنت بعيد عن أنظاره ورعايته. وسيقال لي إنّه لكل ذلك يفترض بك أن تتفهّمه وتتفاهم معه.
ما لن يستطيعوا قوله لي، وما لا يمكنهم ولا يمكنني التصريح به هو ما اكتشفته مع الأيام في لعبتي مع أبي، هو ذاك الهاجس الذي بات متأصِّلاً في أعماقه بعد كلّ ما عاشه، هو ضغط الماضي بكلّ أثقاله وتراكماته، هذا الماضي الذي جهد لإعادة صياغته بذاكرته الانتقائيّة المُتَعمَّدة، وهو يعرف تماماً أنّ ما يحاول طمسه من محطّات معلوم عندي كونه معلوماً عند الجميع. وما لن أستطيع التصريح به في محاججتي هو ما ألحظه من خوف دائم وريبة مُمِضَّة في تصرّفاته وتنقّلاته، وذاك الحذر الدائم في تعاطيه مع العالم الأوسع من حارتنا. لم يفارق المسدَّس وأمشاطه خصره بالرغم من تأكيده الدائم أنّ مشاكلنا أصبحت وراءنا. في الحارة وأبعد منها يستكشف طريقه وتبقى عيناه "عشرة عشرة"، يحرص على ألا يكون مكشوفاً إلا من جهة واحدة، تلك الواقعة في مرمى ناظريه.لا يخرج أبداً في الليل، وإن تأخّر أوّل المساء في زيارة صلى مسدّسه وسار متيقِّظاً ومتنبِّهاً لصق الحيطان. كلّ حركة مفاجئة أو شخص مجهول يلمحه من بعيد مصدر خطرٍ محتمل. وفي البيت قلقه الدائم واستفساراته وتنبيهاته لي خصوصاً، وعيناه المتراقصتان، "بِرْكة دم"، من سهر ومن شربٍ. "بركة دم" أعادتني إلى حديث ذاك "القبضاي" من أبناء بلدتنا الذي التقيته في مزرعته الجرديّة أثناء رحلة قمنا بها هناك. هو من الذين ابتلوا بأحداث بلدتنا الداخليّة، وخسر فيها أباً وشقيقاً، وسعى كغيره إلى ثأرٍ وانتقام. لكنّه في النهاية قرّر الابتعاد وانصرف إلى زراعة أراضيه ورعي ماشيته في الجرد صيفاً وشتاءً. تعرّف بنا، سألنا عن أهلنا، وعن والدي عندما عرف أنا ابن مَنْ، وروى لنا بعض أخباره، عن شجاعته وحماسته، وما عاشوه من ظروف قاهرة ومؤلمة، من فرار هنا في الجبال ومن دخول السجون لسنوات، ما دفعه في النهاية إلى الانعزال مبتعداً عن مشاكل الناس. وفي حديثنا عن أعماله وعن صعوبة الإشتاء في الجرد وتحمّله مشقّة هذه الحياة بعيداً عن الناس مرّر لنا ما بدا لنا نصيحةً أكثر منه تبريراً:
- يا ابني شو بدّك بالناس، الناس بلوة الناس. شوف شو عشنا، وبَيّك بيعرف، عا إيدَيْنا حياة كيف ما برمتا "بركة دم"(...)
* تصدر قريباً عن "دار النهضة العربيّة"، بيروت، رواية جان هاشم، "صورة طائشة"، ويقام حفل توقيعها في فندق بلمون في إهدن، يوم السبت الواقع فيه 5 آب 2023.