"السندباد الأحمر" لزميلنا محمّد الحجيري تصوّر طفولة بريّة وترسم نموذجاً فريداً يجمع بين الزورباويّة والدونكيشوتية. زميلنا الروائي والصحافي محمد الحجيري الذي عمل لسنوات طويلة في فريق "ملحق النهار"، صدرت له حديثًا عن "منشورات رامينا" في لندن رواية "السندباد الأحمر"، التي تقدم عبر شخصية عبد الجبّار، بطلها الفوضويّ الرومانسيّ الحالم، صوراً ومفارقات من التاريخ والواقع، فتعيد رسم ملامح مراحل سابقة من دون تجميل أو ترقيع أو محاكمة، وتغوص عميقاً في النفوس لكشف زيف الشعارات العامية ووهم البطولات الخائبة، حيث تمثّل اعترافات بطل الرواية مزيجاً من الألم والسياسة والحبّ والفوضى والخيبة والرجاء، فهو الذي يجمع في شخصيته العديد من الشخصيات تجسّد كلّ منها عالماً مستقلّاً بذاته.
يرسم محمّد الحجيري في روايته (الغلاف لوحة للفنان الكردي السوري بهرام حاجو) صورة سحرية لبطله عبد الجبار الذي يشكّل نموذجاً فريداً يجمع بين الزورباويّة والدونكيشوتيّة، مع لمسة لبنانية لافتة تضفي عليه الفرادة والتميّز، فيعيش حرّاً في داخله ويكون مجبولاً من الخيبات والأوهام، ناهيك عن حالته الجسدية الخاصّة التي توحي لمن يراه وكأنه يكابد كي لا يسقط أرضاً.
يعيش عبد الجبار طفولة بريّة في أكثر من اتجاه اخترقتها القصص والأشعار، تراه أثناء الحرب يمزّق الصور الملصقة على الجدران لخصومه السياسيين، ثمّ تراه يصير، لمراسه الطويل في طرح الأسئلة المستفزّة وعدم الانصياع للميثولوجيا، مضربَ مثلٍ بين أقرانه الشبان في التمرّد واللاخضوع، وفوق هذا وذاك يظلّ يشعر أنّه غريب في مجتمع محكوم بالعنف ومعادٍ الحرية.
نشر محمد الحجيري أعمالاً روائية وبحثية، منها رواية "طيور الرغبة"، وكتاب "العشق السرّيّ، المثقفون والرقص الشرقي" و"بوب آرت أم كلثوم، الحب الصوت السلطة". يعمل في الصحافة وكتب في كبريات الصحف والمجلات والمواقع العربية كـ "النهار" و"السفير" و"الجريدة" و"المدن"، و"بدايات" و"نزوى" و"الفيصل".
من الرواية:
"ما حدث لا ينقضي أبداً، كانت المكتبة تجمع صداقتنا وتصنع أفكارنا، تلك الكتب التي كانتْ تحوي أفكاراً وحكايات، صارت رماداً أسود... هل نقرأ في الرماد ونجعله استعارة للأشياء... تلك التحف التي كانتْ موضوعة على الرفوف أو معلقة على الجدران صارت خردة... النار تبدّل معنى الأشياء. مقتل تلك الكائنات الورقية جعلني خارج زمني، وخارج ذكرياتي.
أراقب المارة، أشعل سيجارة... السيجارة تساعدني على النسيان لكنها لا تطفيء الكآبة الجاثمة على عينيّ. أتذكّر فترات القراءة والحكايات التي قضيتها من أناس جلسوا في المكتبة لساعات... أتذكّر أشياء وأشياء، والآن لا أستطيع فعل شيء سوى السعي إلى النسيان في مواجهة ذباب الذاكرة... العيش في بيئة يسيطر عليها الغيب، يجعل المرء مكتئباً. أقول لو أمتلك القوّة لما كان لأحدٍ أن يجرؤ على الاقتراب من مكتبتي. أنا على يقين أن البشر يهابون الأقوياء، ويفترسون الضعفاء، نجاهد كثير لنخرج من الغابة ونعود إليها، ولا ضير في القول إنّ الكثيرين يشمتون. أعرف أنّ الحقد مدفون عند الكثيرين ويظهر في لحظات السواد... كنتُ أراقب العمال يرفعون رماد الأشياء، رائحة الحريق لا تزل قويّة وتزكم الأنف، كل الأشياء استسلمت لمارد النار... الشّرر يتطاير من عينيّ... أريد أن أبكي ولا أبكي، أريد أن أستوعبَ ما جرى ولم أستوعبْ. أشعل سيجارة بيدي المرتجفة وخيالي يحترق مثل حطب يابس، وعندما وصل العمال إلى رماد بعض الكتب، ظهر كتاب "مذكرات غاندي" مع مجموعة أخرى لم تحترق، تدحرجتْ دموعي لاإرادياً مثل صخور عالية، هوتْ في وادٍ سحيق. عانقتْ دموعي رائحة الرماد، وخرجتُ هائماً".