النهار

ولا الضالّين لحنان فرفور : "حين يتقدّم المعنى..."
نبيل مملوك
المصدر: "النهار"
ولا الضالّين لحنان فرفور : "حين يتقدّم المعنى..."
مجموعة "ولا الضالّين" للشاعرة حنان فرفور.
A+   A-
يبدأ السجال الحقيقيّ حول كنية الشعر من مقولة مارتن هايدغر "اللغة تتكلّم في الشعر"، ومن المجموعات التي ترسّخ هذا السجال الأبديّ هي مجموعة "ولا الضالّين" للشاعرة حنان فرفور (الصادرة عن دار موزاييك للدراسات والنشر، طبعة أولى ٢٠٢٢)، حيث نجد البحث عن المعنى أولويّة من تكوين الصورة، والتشبّث بالقصد أتى مقترنًا بالنّظم ما يضع اللغة بين فكّ النّقد ويثبّت الدهشة في موضع واحد هو "قفلة" الشطر أو البيت.


المعنى وسلطة الوزن...
في أواخر أعماله النثريّة "خمسون عامًا من الشعر" هدّم نزار قبّاني (١٩٢٣-١٩٩٨) الجدار الفاصل ما بين الشعر والنّثر حين قال: "إنّي أرى الجدار الفاصل ما بين الشعر والنثر ينهار كما انهار جدار برلين"، وهذا ما يدلّ على توغّل قصيدة النثر من جهة في عمق المشهد الأدبيّ الكتابيّ، وعلى رغبة المزاج العام إمّا في مواجهة هذا القيد أو التحرّر الكلّيّ من فلك التفعيلات.
في مجموعة "ولا الضالّين"، كانت اللغة تخطو ببطء نحو القصد، وتتضمّن ألفاظاً كان يمكن تخفيف حدّتها اللفظيّة مثال" تذوي/ أماليح /الرمس" وسواها، أتت راضخة لسلطة الوزن إلّا أنّ ما دفع فرفور نحو المعنى دفعها أكثر كذلك بحكم الإيقاع المولود حكمًا بفعل النظم نحو الدهشة"، إذا ما وزّعوا ما بين الدخان حنينهم، يذوي الأحبّة في الشرايين" (ص. ١٣).
 
وهذا يدلّ على ما يراود اللغة من مدّ وجزر يعطيها رنينًا ويقلّل من سرعتها السرديّة- الشعريّة في آن، خاصّة وأنّ مؤلّفة مجموعة "لو" قدّمت قصيدتها عمومًا على أنّها "مونولوج" وإعادة مسرحيّة تطرح القضايا الإنسانيّة والظواهر المجتمعيّة المحاصرة لحاضرنا كقصائد: "خارجًا عن النّص" (ص. ٣١)، " آيل للعبور" (ص. ١٣) وقصيدة "نبوءة امرأة" (ص. ٨٩).
 
رغم تقدّمها لتكريس المعنى وتذييله بالدهشة إلّا أنّ سلطة الوزن جعلت عمليّة التلقّي بطيئة والتدرّج القرائيّ أبطأ، كأنّنا أمام تلقّ فنّيّ على جرعات أو بالتقسيط، وهذا ما قد يضع القصيدة عمومًا في خانة النحت أو في خانة الرضوخ اللغويّ للموسيقى.



الدهشة بدلًا من التصويريّة
يتّجه روّاد قصيدة النّثر منذ تبلور فكرتها أزليًّا وبأسماء وأشكال مختلفة بدءًا من القرآن الكريم، وصولًا إلى مجلة شعر وما يتفرّع منها من محاولات وحالات شعريّة إلى الإيجاز والدهشة بدلاً من الزخرفة. ولعلّ ما نجده من قبض على الدهشة وطرحها بين شطر وآخر في أبيات حنان فرفور الشعريّة تجديد يضاف إلى تجارب شعريّة كلاسيكيّة تتّجه نحو التجديد.
 
نلاحظ أنّ الشاعرة تعمد إلى التنقّل بين الشطر والآخر متجنبة الانزياح الشعريّ، متمسّكةً بالإيقاع، والأسلوب الخبريّ الفريد: "اليوم، لن ينكر الجوعى نبوّتها/ إنّ الرغيف ببال الجائعين... نبي!!" (ص. ٩١) إذا اتّخذنا هذا البيت مثلًا دون الحصر، نلاحظ أنّ التشبيه أتى مضمرًا متمّماً للغاية التضمينيّة التي تصبو إليها الشاعرة، أي نحن لسنا أمام الفنّيّة كغاية قائمة بحدّ ذاتها. وهذا ما يعدّ شكلًا من أشكال التجديد، والحقّ أنّ الموضوعات التي باتت أفكارًا روائيّة دسمة كالمرأة المتمرّدة و"مونولوج" الفقراء والأمومة إلخ... أتت كقصائد غايتها التكثيف الموزون المحاط بقيد تغلّبت عليه الشاعرة حينًا وغلبها في حين آخر.
 
خلص محمود درويش في إحدى قصائده إلى أنّ الكتابة تجرح من دون دمٍ، أمّا عبّاس بيضون فاعتبر الشعر "تسريراً" (جعله سرًّا) للمعنى. من هاتين المعادلتين نرى حنان فرفور واقفة بين القصد وما يضمره من جروح والشعر الذي يجعل السرّ في مبناه لا معناه.
 
هاجس المعنى في "ولا الضالّين" تقدّم على كلّ شيء إلّا على سؤال واحد: "متى نرى اللفظ والمعنى مطروحَيْن معًا في الطرقات؟".
 

اقرأ في النهار Premium