طُرحت قضيّة العنف بقوّة على جيلنا، الذي ترك قسمٌ هامٌّ منه الدراسة للالتحاق بالعمل الفدائيّ الفلسطينيّ. فقد شكّلت هزيمة 1967 هزيمةً للأيديولوجيّات السياسيّة التي حملها الجيل السابق، من ناصريّة وبعثيّة وشيوعيّة، وتوزّعت الشبيبة الناشئة بين الاتّجاهات الماركسيّة الثوريّة والإسلاميّة الراديكاليّة.
كانت قضيّة العنف الثوريّ من أهمّ نقاط الخلاف في الحلقات الماركسيّة في السبعينيّات، تماماً كما كانت قضيّة الجهاد، في صلب الأزمات التي عاشتها تعبيرات الإسلام السياسيّ المختلفة.
في الأوساط الطلّابيّة اليساريّة، كانت صور تشي غيفارا و«التوباماروس» و«المير» و«جبهة تحرير الخليج العربيّ وعُمان» وفدائيّي «خلق» الإيرانيّة و«البوليساريو» و«الجبهة الشعبيّة لتحرير إريتريا» تحمل من الرومانسيّة شحنات كافية لاستقطاب الشبيبة. كذلك كان السخط الشبابيّ بادياً في الأوساط الإسلاميّة على أسماءٍ كبيرة مثل مصطفى السباعي وعصام العطّار وحسن الهضيبي لموقفهم «المائع» من قضيّة الجهاد، وبسبب توزيعهم وتعليمهم لمؤلّفات سيّد قطب (معالم في الطريق، هذا الدين، المستقبل لهذا الدين...).
لم تنجح الحلقات التي تبنّت راية الكفاح المسلّح إلّا في استقطاب أقلّ من عشرين طالباً من الجامعات السوريّة واللبنانيّة في مطلع السبعينيّات. وضعت السلطات السوريّة حدّاً لنشاط المنظّمة الشيوعيّة العربيّة عبر أحكام بالإعدام نُفّذت خلال ساعات من صدورها في 1975، ووضعت باقي الحلقات الماركسيّة، الأكبر عدداً وانتشاراً، شروطاً تعجيزيّة للّجوء إلى العنف، في فتوى ذكيّة سمحت باستقطاب الشبيبة الأكثر اندفاعاً وحماسةً إلى العمل النقابيّ والسياسيّ السلميّ. في هذا الوقت، كانت «الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين» ترسل شبابها إلى معسكرات العمل الفدائيّ في لبنان والعراق.
ولم تلبث، بدعمٍ إقليميّ، أن أعلنت الجهاد في سوريا لإسقاط النظام «النصيريّ». هكذا حلّت مآسي 1978-1982 التي انتهت بمجزرة حماه، ولكن أيضاً، بدأ التوجّه الكبير للعناصر الجهاديّة الإسلاميّة إلى أفغانستان.
تبعثر جيلنا بين المعتقلات والمنافي والمقابر، وأصبح موضوع العنف في الوعي العامّ مرتبطاً باستمرار السلطة الدكتاتوريّة وخنق الحريّات وإطلاق التعسّف. شخصيّاً، توجّهتُ إلى حركة حقوق الإنسان والأبحاث.
سمحت لي تجربتي الحقوقيّة بزيارة مناطق الصراع المسلّح الرئيسيّة في نهاية القرن الماضي، من كشمير، بيشاور، منطقة البحيرات الأفريقيّة، يوغسلافيا السابقة، الجزائر... إلخ، وأيضاً الحركات المدنيّة في بولونيا وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقيّة، فأطلقت في 1995 ما سُمّي عهد الشرف لنشطاء حقوق الإنسان، الذي وضعت فيه: «أن أرفض المشاركة في أيّ مشروع ذي طابعٍ عنصريّ أو عنفيّ أو تمييزيّ».
أقرّت عشرات المنظّمات الحقوقيّة العربيّة والدوليّة هذا العهد في 1997. وتابعتُ مع منصف المرزوقي وفيوليت داغر ومحمّد حافظ يعقوب الكتابة والبحث في أشكال النضال السلميّ المختلفة والمقاومة المدنيّة.
ما من شك في أنّ قيام دولة إسرائيل وتوسّعها القائم على ضرورة عسكرة المجتمع الإسرائيليّ وضمان تفوّق عسكريّ للسيطرة، كان موضوع نقاش متواصل مع الأطراف التي تبنّت العنف. وتجنّباً لجعل عصا موسى تحكم تصوّراتنا وأساليب نضالنا، كنّا نسعى باستمرار إلى تفعيل وابتكار أشكال سلميّة للنضال.
لم يعد بالإمكان، بعد سقوط جدار برلين، الادّعاء بفضيلة نضاليّة للعنف في معركة التغيير سواء كانت داخل أو خارج الحدود والأقاليم. سقوط وتفكّك الاتّحاد السوفياتيّ ومعسكر وارسو حقّقته النضالات المدنيّة، وفي كلّ التجارب البشريّة التي عشناها في الأعوام الثلاثين الماضية، كان العنف سبباً رئيسياً في تراجع وتفكّك مجتمعيّ شامل، لأنّ من البداهة أن تتمتّع المنظومة العالميّة في مراحل التراجع التي نشهدها، بالقدرة على إمساك مباشر أو غير مباشر لوتيرة العنف في أيّ صراع في دول المحيط.
ولم تتورّع عن ممارسة مختلف أنماطه على من نصّبته في موقع «العدوّ». وسواء ضمّ معسكر «الشرّ» ثقافات وأدياناً، أو كيانات دوليّة عملاقة، كان اللجوء إلى العنف، عسكريّاً كان أو اقتصاديّاً، الوسيلة الأهمّ للحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه، الأمر الذي عزّز نشوء مجتمع مدنيّ عالميّ، اعتبر اللاعنف الوسيلة الفضلى للتغيير.
بدأنا منذ 2003 نراقب انتشار ظاهرة الاحتراف العسكريّ والشركات الأمنيّة الخاصّة وتوسيع الفضاء لما سُمّي المرتزقة، بل صرنا نشهد تعميماً لأشكال العنف العسكريّ بالوكالة، وقودها «مقاتلون بلا حدود» يُخيّل إليهم أنّ تفجير سفارة أو خطف صحفيّ يمكن أن يهزّ هذه المنظومة، أو أنّ التحالف معها والعمل تحت لوائها يسمح بامتلاك حانوت صغير في سوق تمتلكه حصراً لوبيات السلاح الأقوى. فيما تصاعد العنف الاقتصاديّ عبر صيرورة «العقوبات المتعدّدة الأطراف» والأشكال، كسياسة رسميّة للأقوى. وفي جملة الحالات التي عشناها ونشهدها، كانت «الخسائر الجانبيّة» كما سمّتها مادلين أولبرايت، أكبر بكثير من النتائج المتوخّاة.
في كلّ الحالات، أُعطي الدليل على أنّ لجوء القامع أو المقموع إلى العنف، من شأنه تدمير المكوّنات الأضعف والشعوب المستضعفة.
من الصومال إلى العراق، ومن أفغانستان إلى اليمن، جاءت تراجيديا التحطيم الذاتيّ/الخارجيّ للمجتمعات لتؤكّد أطروحاتنا، ولتُظهر مدى تفاهة من اعتقد أنّ الدبّابات أو تفجير النفس في الآخر، يمكنها أن تبني غداً أفضل لأبنائه. ومنذ صيحات بعض المعارضين السوريّين المطالبة «بسلاح نوعيّ وحظرٍ جوّيّ وتدخّل الناتو وتغيير موازين القوى»، إلى الحرب الهجينة الأوكرانيّة-الروسيّة، أصبحت مهمّة أنصار السلام تتمثّل في إحصاء وتوثيق عشرات بل مئات آلاف الضحايا وملايين اللاجئين والمهجّرين قسريّاً وعودة البنى التحتيّة قرناً زمنيّاً إلى الوراء.
والحقيقة أنّ فكرة هذا الأطلس المختصر، جاءت من مناضل حقوقي إيرانيّ طلب منّي ما كتبت عن اللاعنف، لخوفه من انجراف حركة الاحتجاج النسويّة والمجتمعيّة على سلطة ولاية الفقيه إلى الوسائل العنيفة كما حدث في سوريا. وقد سألني المناضل الإيرانيّ: «كيف كانت لديك هذه القناعة الراسخة منذ الأيّام الأولى، بأنّ مقتل الثورة السوريّة سيكون بالعنف والطائفيّة والتدخّل الخارجيّ؟». فأجبته: «هذا ما رأيته بأمّ عيني في العراق وأفغانستان ورأيناه في الصومال، مهمّة الأجهزة الأمنيّة الرئيسيّة عندما تواجه حراكاً شعبيّاً هي القمع المفرط والأعمى بهدف تحويل الثائر على الدكتاتوريّة إلى ثور، بالإمكان جرّه إلى ملعبها».