النهار

"سماء بضفيرتين" لعبد الجواد العوفير: فضاء لا نهائيّ للرمز
نبيل مملوك
المصدر: "النهار"
"سماء بضفيرتين" لعبد الجواد العوفير: فضاء لا نهائيّ للرمز
غلاف المجموعة الشعرية "سماء بضفيرتين".
A+   A-
رسّخ الشاعر المغربيّ عبد الجواد العوفير في مجموعته الشعريّة "سماء بضفيرتيْن" (دار راية-2023) الفضاء الشعريّ كصفحةٍ خبريّةٍ كتابيّةٍ لامتناهيةٍ صالحةٍ لنقد كلّ الوقائع لبناء عالم هادئ مضبوطة فيه إيقاعات اللذّة والتصوير... فالعوفيرعمد إلى الاِستعانة بالله والجنس والمرأة لتحويل الموضوعات من أقانيم أو موضوعات جاهزة كلاسيكيّة إلى أدوات تخدم السياق الشعريّ أو العاطفة، حيث يبقى المعنى ساطعًا ومباشرًا من جهة، لكنّ ظلاله تتكاثر بصيغة مستدامة.

الأسلوبيّة ومبنى النصّ المكثّف

معظم قصائد هذه المجموعة تتّخذ منحى الإيجاز أو التكثيف التي أوصت بها هيكليّة قصيدة النثر الحديثة، حيث يضيق الأفق السرديّ أمام الشاعر وتتّسع روح المغامرة بحثًا عن الدهشة أو الإشكاليّة، وهذا ما قدّمته نصوص الشاعر، فالدهشة التي سلكت مجرى شعراء الحداثة وتعريفها وتجريدها من سياق الصور والزخرفة، حضرت كلقطات سريعة لا تحتاج إلى تتمّة، وهذا ما ألغى في بعض الأحيان دور المتلقّي واكتفى بجعله بمثابة زائر لمرسم أو متحف: "في الحانة صديق، نسمّيه الرسول/ حينما أنظر في عينيه/ أتذكّر جَدًّا لم يوجد قطّ." (ص. 28). رغم ذلك كان للدهشة أيضًا وجه أكثر قوّة، وتمركز مغاير لها خلال السياق: "هذه الليلة سماء صغيرة تحبو على فخذ عاشقة" (ص.40)، تأتي الدهشة ضمن شذرة أفقيّة الشكل لتنسينا الأسلوب الخبريّ وتعكس لنا الطباق أوالثنائيّة الضدّيّة "السماء" و"فخذ العاشقة"... السماء بروحانيّتها وتجرّدها من الشهوة والعاطفة، وفخذ العاشقة مبتدأ الالتهاب الشهوانيّ، وهو ما يبيّن قدرة الشاعر اللاواعية على توليد إيقاع داخليّ سريع بتأويل واحد، لكن بأبعاد عاطفيّة كثيرة.
فضلًا عن كلّ ما ذُكر، فإنّ التكرار في قصيدة "غرفة" (ص.35) للكلمة العنوان فضلًا عن التوازن بين الشذرات، شكّل بدوره وحدة عضويّة بينها لتكون أشبه بأسطر لقصيدة واحدة تنتمي إلى سياق سرديّ واحد، وهذا ما كاد يوقع الشاعر في فضاء كلاسيكيّ رغم الشكلانيّة الحديثة.
يبتعد عبد الجواد العوفير عن القصّ رغم أنّ كلّ المركّبات الخبريّة التي قامت عليها نصوصه تظهر استعدادًا واضحًا لتحوّل هذه النصوص إلى قصص قصيرة جدًّا... لكنّ التصويريّة المصحوبة بالايجاز والدهشة أنقذته من الانزياحات من جهة، ومن الاضطرار إلى الزخرفة لتسرير المعنى وفقًا لأحد تعريفات عبّاس بيضون للشعر.

الله والمرأة والجنس... رؤوس حربة في النّصّ

حوّل شاعر "راعي الفراغ" (بيت الشعر في المغرب، 2010) الله والمرأة والجنس من موضوعات متداولة وجرعات ضروريّة لإنعاش النّصّ إلى أدوات لبناء النّصّ، ففعل المضاجعة المكرّر في قصائد عدّة منها "وحيدان في غابة"/ "عزلة لبقة" / "الضيف"، يتّخذ وضعيّة التجرّد من كلّ القيود والسكوت، وكأنّ هذا التكرار جاء ليجعلنا نطبّع بصوت عالٍ مع الجنس، والدّليل على ذلك ربطه بأدوات ومتعلّقات إلهيّة كالله مثلًا: "أيكون لي شكل الله الآن؟/ تقول المرأة وقد غادرها الجسد القديم." ( ص.39)، لتكون المرأة بدورها أيضًا موضوعةً ثابتة
ترسم القالب الشعريّ وتكرّس العاطفة كعنصر كلاسيكيّ للعمل الأدبيّ، مصحوبة بالجنس الذي اتّخذ تموضعه الحرّيّة وإسقاط قيم كثيرة كحرمة الموت الموروثة مثلًا: "حينما أكون غائبًا عن البيت/ تستقبل العزلة أصدقائي الموتى/ وتضاجعهم واحدًا واحدًا" ( ص.56). ولعلّ الجنس الذي شغل مخيّلة الشاعر واشتغاله النصّيّ أفرز بدوره حقلًا معجميًّا لمفردات مترابطة ورمزيّة لهذا الفعل كالتنّورة /الفخذ /الفتاة /المرأة/ الجسد/ المضاجعة...
في المقابل أتى الله بصيغته السلسة اللامخيفة بعيدة من فائض القوّة أو المطلق، أتى كمحاور على مسرح الشعر "حياتي قصيرة مثل الله" (54)، ورغم اختفاء لفظة الله أو ما يشابهها في قصيدة "وحيدان مثل غابة" (ص.9) إلّا أنّ حضور كافكا العدميّ السوداويّ إلى جانب ضمير الأنا المتكلّم يهيّئ لفعل تغييبه على حساب الجنس الأقوى أمام فريسة هي امرأة تنضح بكاء وترغب ربّما بالهرب.
خرجت هذه الأقانيم من دورها المعتاد متّخذةً منحى سيميائيًّا يحاول الثبات والتموضع في التركيب اللغويّ، لكنّ الإيجاز والتكثيف حالا دون ذلك، ما دفع الشاعر ربّما إلى تكرار حضورها في محاولة لرسم رؤية أكثر وضوحًا لوجود قلق.

تحاول مجموعة عبد الجواد العوفير الإجابة على سؤال واحد "أين نحن؟" فالكتابة التي اِتّخذها كثيرون من شعراء الغرب فعل هرب، واتّخذها لويس غليك وت.س.إليوت وخورخي لويس بورخيس فعل تصوير وحيرة أثبتت أنّ الاجابات في الشعر هي نقض للصورة وللفضاء ككلّ...
لهذا بقيتْ "سماء بضفيرتين" رغم السرعة النصيّة مرآة حقائق يتناوب على إضاعتها الشاعر من جهة والمتلقّي من جهة ثانية.

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium