الدكتور جمال نعيم
انعقد مؤتمر "التفلسف الترجمي وامكان القول الفلسفي بالعربية: موسى وهبة رائدا"، شارك فيه عدد من قادة الفكر والتفلسف من لبنان والعالم العربي. ننشر في ما يأتي مقالة الدكتور جمال نعيم الذي تتلمذ فيلسوفا على يد الراحل الكبير موسى وهبة.
كم كنتُ أتمنّى أن يكون موسى وهبه بيننا! يستمع إلينا. ويرى ثمار عمله الفلسفي الذي استمر زهاءَ نصف قرنٍ وثمار طريقته الجديدة في التفلسف. شاءت الأقدار أن يرحل. لكن هل يموت الفيلسوف حقًّا؟!
يجسِّد موسى وهبه مثال الفيلسوف بامتياز، فقد عاش فيلسوفًا ورحل فيلسوفًا. ورحيله ليس حدثًا عاديًّا في عالمنا العربي، لا سيّما بالنسبة إلى النشاط الفلسفي بالعربية، فقد كان وهبه صاحب مشروعٍ فلسفيٍّ كبيرٍ يفوق قدرات صاحبه. من هنا، حزننا وحزن العربيّة على رحيله.
الفيلسوف الراحل موسى وهبه، إذًا، مثَّل حالةً فريدةً في فضاء الثقافة العربيّة. من هنا، أهمّيّة الالتفات إلى بادرته الفلسفيّة التي تميّز بها، وإنْ لم ينشر ما يُثبت بناءَه لسستامٍ فلسفيٍّ يخصّه سواءٌ أكان سستامًا فلسفيًّا مفتوحًا أم مغلقًا. لذا، علينا، نحن خلفاءه وطلابَه، أن نعكف على نصوصه المتناثرة وعلى ترجماته حتى نستخلص منها ما يمكن أن يشكِّل عمارةً فلسفيّةً تخصُّه وتضعه في عداد الفلاسفة الذين غيّروا في طريقة تفكيرنا ودفعونا إلى إعادة بناء أذهاننا بطريقةٍ مختلفة.
رسالة وهبه الفلسفيَّة هي التالية: ليست الفلسفة ما تظنّون، فأنتم تخطئون معناها. إنّكم تعبِّرون عن حاجةٍ كبيرةٍ إلى الفلسفة، لكنّكم تملأون هذه الحاجة بما يشبه الفلسفة، أي بأقوالٍ في أهمّيّة الفلسفة ودورها وفائدتها لا في الفلسفة. لقد غلّبّتُم إرادة العَمَلان على إرادة العلمان، فتحوّلتم إلى مثقّفين مناضلين تسعون إلى النهوض بمجتمعاتكم لا إلى إغناء التراث الفلسفي العالميّ بأقوالٍ وبادراتٍ فلسفيّةٍ جديدة. هذا ما كان يسمّيه وهبه البَعْط الفلسفيّ بالعربي. وهو بالمناسبة العنوان الذي اختاره لمجموعةٍ واسعةٍ من كتاباته نأمل أن ننهي تدقيقها لتكون صالحةً للنشر في وقتٍ قريبٍ جدًّا. لقد تأخّرنا كثيرًا بسبب الظروف التي مررنا بها في لبنان. لكن قد تكون هناك فائدةٌ في التأخير، ألا وهي العمل على إعادة ترتيب كتابات وهبه وتنسيقها بطريقةٍ تعبِّر عن وجهة نظرٍ فلسفيّةٍ جديدةٍ، مع إضافة كتاباتٍ أخرى إلى كتاب البعط الفلسفي بالعربي لم يضفها وهبه وكتابة مقالةٍ موجزةٍ ومكثّفةٍ عن وجهة نظره الفلسفيّة المتماسكة، نستخلصها من كتاباته المتنوعة. يقول وهبه عن البعط الفلسفي: "وأُطلِق البعط الفلسفي على الأقاويل التي تبعط (تذبح) الفلسفة لتبعط (تحرُك) هي في اتجاهٍ آخر. فهي تقِلّ عن القول الخطابي وتهدف لا إلى النظر بل إلى العمل".
وعليه، لا شيءَ يميِّز حياة موسى وهبه سوى الفلسفة. لقد بقي ذلك المتوحِّد، ذلك الغريب، ذلك الفيلسوف الذي استحوذت عليه الفلسفة فلم تدع مجالًا لغيرها. كانت حياته العاديّة تمشي بهدوء. حتى انضمامُه الى الحزب الشيوعي اللبناني (١٩٦٨-١٩٧٨) لم يكن علامةً فارقةً في حياته. بل كان خروجُه الفلسفيّ من ذلك الحزب بعدما اطلع على كنط فيلسوف الأنوار وعلى قراءة ألتوسير اللاإنسيَّة لماركس، هو العلامة الفارقة. عاش وهبه فيلسوفًا ورحلَ فيلسوفًا. وقد قلتُ عنه مرّةً: "لم نكن نسمع صوت أستاذٍ وحسب، بل كنّا نسمع شيئًا من صوت كنط، شيئًا من صوت الفلسفة، وربما صوت الفلسفة نفسها".
مشكلتان رئيستان شغلتا وهبه طيلة حياته: مشكلة إمكان القول الفلسفي بالعربيّة ومشكلة الميتافيزيقا. وفي رأيي، إنّ المشكلة الأولى رغم أهميّتها هي مجرّد تمهيدٍ للثانية. فالفيلسوف همُّه أن يتفلسف ويُثري التفكّر الفلسفي لا أن يُعلي من شأن لغةٍ معيّنة.
1-مشكلة إمكان القول الفلسفي بالعربيّة:
حفظ موسى وهبه درس الكندي جيِّدًا إذ لا إمكان للتّفلسف بالعربيّة إن لم يكن التراث الفلسفي العالمي حاضرًا بالعربيّة، إن لم يكن "جسد الفلسفة الحيّ" كما يحلو لوهبه أن يسمِّيَه، حاضرًا أمام قراء العربيّة؛ لأنَّه لا يمكن للفيلسوف أن يبدأ دائمًا من جديد. والفيلسوف يبني نتاجه على "أنقاض" نتاجات غيره إذْ لا عمارةَ فلسفيّةً تبقى متماسكةً إلى الأبد. فهو يحاور ويعارض وينتقد غيره من الفلاسفة الذين يختلف عنهم ويتميّز منهم. وكلُّ فلسفةٍ كبيرةٍ تختزل في قولها القول الفلسفي كلّه. فلا شيءَ يموت في الفلسفة. والفيلسوف الكبير يبقى خالدًا مهما مرّ عليه الزمن. وربما يكون الفيلسوف مضيئًا بعد موته أكثر ممّا كانه في حياته لأنّ النّص الفلسفي نصٌّ مكثَّف وغنيٌّ، ويبقى عرضةً لقراءاتٍ وتأويلاتٍ مختلفة.
سعى وهبه إلى نقل التراث الفلسفي العالمي إلى العربيّة، سعى إلى نقل أمّهات الكتب الفلسفيّة إلى العربيّة. وكان يعتبر أنّ المترجمَ هو الفيلسوفُ الوحيدُ الممكنُ بالعربيّة اليوم. لذا، كان يتمسّك بقولته الشَّهيرة: إذا أردتم أن تتفلسفوا فترجموا. كان لديه إيمانٌ لا يتزعزع باللغة العربية، وهو العارف باللغات الأجنبيّة. وكان يؤكّد دائمًا أنّ العربيّة قادرةٌ على التفلسف اليومَ، بل وأكثر من غيرها لأنّها ما زالت لغةً خام ولديها إمكانيّاتٌ كبيرةٌ للتفلسف وإغناء القول الفلسفي العالمي.
كنت ألقِّبه، عندما كنت طالبًا في قسم الفلسفة، بكنط عصره. فقد استطاع أن يقدّم قراءةً مختلفةً ومثيرةً للانتباه ومتعمِّقةً لكنط، لكن بالعربي هذه المرّة، قراءةً يضاهي بها قراءات الفلاسفة الكبار من أمثال هايدغِر ودولوز. لنستمع إليه يقول في مقالته: "النقدية" (الفلسفة النقدية) الواردة في المجلّد الثاني من الموسوعة الفلسفية العربيّة ما يلي: و"النقدية، بالمعنى الذي أقول، لوجهةُ نظرٍ جديدةٌ في التفلسف يجب استخلاصها ورسم معالمها من كتب النقد الثلاثة بالإضافة إلى كتاب تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق وكتاب مقدمات لكل ميتافيزيقا مقبلة. ذلك أنّها ليست بمثل هذا الوضوح عند كنط نفسه، أو أقلّه، لم تكن بمثل هذا الوضوح منذ البداية، بل كانت تنمو وتكتمل بمقدار ما كان البحث يتقدم. أقول، النقدية وجهة نظرٍ جديدةٌ، لأنّها تؤسّس قولًا فلسفيًّا مختلفًا، وطريقةً مبتكرةً في التفلسف: فالنقد لا يطمح إلى تزويدنا بقناعاتٍ جديدة، بل إلى مساءلتنا عن الطريقة التي بها كوّنّا قناعاتنا. وهو لا يحمل إلينا حقيقةً مغايرةً، بل يسعى إلى جعلنا نفكّر بطريقةٍ مغايرة". ويضيف: "يجب التمييز في نصوص كنط بين النشاط النقدي، وهو المقصد، وجملة قناعات كنط الفلسفيّة التي قد تشكّل "مذهبًا" لا يتمتّع بكبير أصالة". وفي تقديمه لترجمته نقد العقل المحض إلى العربيّة، يقول وهبه: "وسأراني سعيدًا، إذًا، إن جاء نقلي لـ نقد العقل المحض قراءةً أخرى فيه، وتمرينًا على قول كنط، ومن ثمّ على القول الفلسفيّ بالعربيّة اليوم. أقول: اليوم، بعد أن اضطرب المصطلح الفلسفي أيّما اضطرابٍ في الترجمات الفلسفيّة إلى العربيّة، واستشرت القراءة التاريخيّة للقول الفلسفي، ولُخِّص هذا الأخير، بهدف التعليم، إلى جملةٍ من القضايا والمواقف الفلسفيّة". ويضيف: "وكان معظم التفلسف اللاحق حسِبَه مذهبًا في الكون، بل في الإنسان، أو نظريّةً في المعرفة وعلمًا في العلم. لكنّي أريد أن أصرف النظر عن كل ذلك، لأقرأ نقد العقل المحض، في طبعته الثانية حصرًا، لأرى إلى ما جعله ممكنًا كقولٍ فلسفيٍّ بامتيازٍ، أحْدَث ذلك الانعطاف الرئيس". "وأخالف بذلك قراءة هيدغر، الذي يعتمد الطبعة الأولى، حين أحسَبُ مع آخرين، أنّ الطبعة الثانية تمعن في إيضاح مسألة النقد وليست تراجعًا عمّا افتتحه. وعليه، أُهمِل الإشارة إلى الفروق في قراءتي هذه". وفي مكانٍ آخر يقول: "وتبيُّن شروط الإمكان وحدود الاستعمال المشروع، وهو كل النقد، لم يكن بهذه البساطة ولا بهذا الوضوح. وهو تطلّب، من كنط، تغييرًا كاملًا في طريقة التفكير استنادًا إلى الفَرْض الجديد، ومتابعةً متّصلةً لحل المشكلة العامة بطرائقَ مناسِبَةٍ للفَرْض. وتطلّب، منّي، تذليلًا لصعوبات العَرْض، واجتهادًا يعارض القراءات الشائعة في محاولةٍ للقبض على النبض الذي يحرّك النص".
كنط جديدٌ يولد، إذًا، من اشتغال وهبه على الأثر الكنطي وترجمته كتابَه العمدة نقد العقل المحض. وهو يتعمّد أن يصرف النظر عن كل القراءات والتأويلات للنص الكنطي التي تقتل نبضه الفلسفي وتحوّله إلى جثّةٍ سهلة الهضم. لذا، بإمكاننا القول إنّ كنط، عربيًّا هذه المرة، يولد بين أنامل وهبه الفلسفيّة بعد إدخاله في فضاء اللغة العربية والثقافة العربيّة مع ما يقتضي ذلك من تعديلٍ وتحويرٍ مستحبّيْن.
المترجِمُ، إذًا، ليس مجرّد ناقلٍ من لغةٍ إلى لغة، إذ عليه أن يعطي وجهة نظرٍ في ما يترجِم وفي الفيلسوف المترجَم نفسِه حتى لو خالفت ما هو سائدٌ من وجهات نظرٍ أخرى. فلا يكفي، إذًا، أن يكون المترجِمُ ضليعًا في الّلغتين المترجَم عنها والمترجَم إليها، المنقول عنها والمنقول إليها، بل عليه أن يكون مطَّلعًا بما يكفي على تراث الفيلسوف المترجَم وعلى التراث الفلسفي العالمي وعلى تاريخ الفلسفة أيضًا حتى يستطيع أن يقبض على النّبض الأساسيّ الذي يميّز بادرة ذلك الفيلسوف الذي هو بصدد ترجمته. وعليه أيضًا أن لا ينشغل بالمعنى مهملًا المبنى، إذ لكلّ فيلسوفٍ كبيرٍ أسلوبه الخاص والمختلف في الكتابة، ليس من حيث المفردات وحسب بل من حيث تركيب الجملة أيضًا. من هنا، قلنا عن وهبه إنّه ذلك الغريب في لغته وفي قومه. لقد ابتدع في ترجماته كثيرًا من المصطلحات الفلسفيّة الجديدة، من أمثال أفهوم وأمثول ومجاوِز وعِلْمان ووعيان ورئيان وفيّاه وليّاه وفيَّانيّة وليّاييّة ...الخ. وهو لا يبتدع هذه المصطلحات الجديدة عبر التّسلية، بل عبر ضرورةٍ يقتضيها القول الفلسفي نفسُه حتى يكون بإمكاننا أن نتفلسف باللسان العربيّ. وهو يعتبر أنّ كلّ تفلسفٍ باللغات الأجنبيّة، الآن وهنا، يعني إلحاق بيروت بما هي ضاحيةٌ فلسفيّةٌ بإحدى عواصم الفلسفة في العالم لأنّ الفلسفة بنتُ مدُنٍ لا بنتُ ضواحٍ.
وعليه، فإنّ موسى وهبه مدرسةٌ في الترجمة الفلسفيّة لا بدّ من العودة إليها إذا أردنا، يومًا، للفلسفة أن تنهض وتزدهر من جديدٍ في بلاد العرب. لقد توسّل وهبه ترجمة الفلاسفة الكبار ليقدِّمَ قراءاتٍ وتأويلاتٍ لافتةً وبارزةً لهم وليجسِّد مشروعه الفلسفي وليعبِّر ضمنًا حتى عن "مذهبه" الفلسفي. التفلسف عبر الترجمة هو الطريق الذي اختاره وهبه وأبدع فيه. وقد كان بودّي أن ينجزَ كتابه الذي وعدنا به عن الميتافيزيقا قبل رحيله ليعلن عن وجهة نظره الفلسفيّة الفريدة، لكنّ الموت كان أسرع منه. في كل الأحوال، أرى أنّ ما كان وهبه يريد أن يقوله قد قاله بين سطور كتاباته وترجماته.
- أفهوم – مفهوم/ مجاوِز- متعالٍ
لو أخذنا مثلًا مصطلح أفهوم الذي ولَّده وهبه على وزن أفعول وليس على وزن أفعولة، فقد اضطرّ إلى ذلك ليشير إلى نشاطيّة التفكير لدى الفاهمة، أي لدى ملكة الفهم، وهي إحدى مَلَكات العقل، أي ليشير إلى أفعال التّفكير لديها. واضطرّ أيضًا إلى تعدية فعل فكّر، فقال فكّر الشيء بدلًا من فكّر في الشّيء. لنقرأ موسى وهبه في تبريره وتسويغه لتوليد مصطلح الأفهوم: "التّفكير يتمُّ إذًا بأفاعيل. والأفاعيل ليست كلمةً مولّدةً الآن بالعربيّة، فالنحاة يطلقونها على الحال والتّمييز والاستثناء، ولم ترد إلّا نادرًا بالمفرد الذي قد يصحّ فيه أفعولًا وأفعولةً، وإنْ وردت بكثرةٍ كوزنٍ قياسيٍّ في مثل قولنا: أسلوب وأخدود وأركوب، وأنشودة وأطروحة وأرجوحة...الخ. فإذا ما تأمّلنا الفرق بين صيغة المذكّر وصيغة المؤنّث يتبيّن أنّ صيغة المذكّر تشير غالبًا إلى الفعل (والمصدر النّوعيّ) وإنّ صيغة المؤنّث تشير دائمًا إلى حصيلة الفعل (ومصدر المرّة).
هذا التّمييز بين الصيغتين هو الذي حدا بي إلى اختيار وزن أفعول في توليد لفظ أفهوم بإزاء Begriff و Concept في قراءتي لـِ نقد العقل المحض لعمّانوئيل كنط (بخلاف ما اقترح يومها العلّامة الرّاحل الشّيخ عبد الله العلايلي، راجع: الموسوعة الفلسفيّة العربيّة، معهد الإنماء العربي، بيروت ١٩٨٦، الجزء الأوّل، مادة مفهوم-أفهوم). الأمر الذي أثار حركةً اعتراضيّةً واسعةً بين جمهور المتفلسفة وجماعة النثر الثقافي الفلسفي، حركةً تحوّلت للأسف إلى عصبةٍ مركّزةٍ في تجمّعٍ عربيٍّ يُعنى بالترجمة، سلاحها الوحيد الاعتداد بالدّارج والرّكون إلى راحة العقل المطمئن إلى مسلّماته.
كنت إذًا ولّدت أُفهوم لتسمية فعل التّفكير الذي تقوم به الفاهمة في محاولة معرفتها لموضوعات المعرفة التجرُبية". وفي مكانٍ آخر يقول: "ولّدتُ أفهوم (على وزن أفعول) بإزاء (der Begriff)، رافضًا ترجمة هذا المعنى بـِ مفهوم، الذي أعدت إليه اعتباره السّابق بإزاء (der Inhalt) المقابل للـْ ما صَدَق بإزاء (der Umfang). والدّاعي الى ذلك أنّ "مفهوم" الدّارج في بلاد الشّام صيغة مفعول، ولا يتوافق قطّ مع مقصد كنط الى اللفظة الألمانيّة (der Begriff) بوصفه فعل تفكير، تقوم به ملكة التّفكير الفاعلة، لا مفعولًا به؛ وأنّ "تصور" الدّارج في التقليد المصريّ لا يفي بالغرض [...]. وإغفال فاعليّة الفاهمة يعبّر عن غفلةٍ تامّةٍ عن معنى الثّورة الكوبرنيقيّة التي قام بها كنط، وعن وجوب تعدية فعل فكّر، وإن تجوّزًا وخلافًا للأصول".
أمّا بالنسبة الى مصطلح المجاوِز، أعني به مصطلح الترنسندنتال، الذي حيَّر معظم دارسي كنط، فكم فرح موسى وهبه عندما وجد له العديل العربي مدعّمًا بأمثلةٍ من النّحو العربي وبآياتٍ من القرآن الكريم، فعند ترجمته لـِ نقد العقل المحض في طبعته الأولى الصادرة عن مركز الإنماء القوميّ، اعتمد وهبه اللفظ الأجنبيّ معرَّبًا ومخفَّفًا، فقال الترسندالي بدلًا من الترنسندنتالي. لكنّ روح وهبه الفلسفيّة العاشقة للفلسفة والعاشقة للغة العربيّة تأبى إلّا أن تضيف شيئًا يضيء كنط ويُغني القول الفلسفي العالمي، أي تأبى أن لا تجد العديل العربي الذي يساهم في قراءة كنط قراءةً جديدة. فبعد سنواتٍ من التّفكّر والتّأمّل (كان وهبه يحب المكوث في الأفهوم) وجد وهبه ضالّته في مصطلح المجاوِز المتداول في النّحو العربيّ. وقد وضّح ذلك في تقديم ترجمته كتابَ هوسّرل المباحث المنطقيّة، فقال: "المجاوِز عند كنط يُطلق على علاقة المعرفة بموضوع المعرفة قبليًّا، أي قبل وبمعزل عن حضوره في التجربة. فالذهن العارف مجاوِز، أو قل إنّه يجاوز بنا الى موضوع المعرفة أي يطلبه ويشكّله تبعًا لبنية الذهن الذاتيّة؛ ويمكن إيضاح ذلك بمثال من النحو العربيّ: حين أقول ضربَ زيدٌ... ينتظر السّامع تتمّة العبارة لأنّ فعل ضرب يتجاوز الفاعل ويجاوز بنا الى طلب مفعول به، فهو فعلٌ مجاوزٌ أو فعلٌ متعدٍّ كما تقول النّحاة، وهذا التّعدّي قائمٌ في معنى الفعل نفسه أي قبليًّا، قبل أن نعرف على من أو على ماذا سيقع الفعل".
هكذا تكون ترجمة موسى وهبه لـِ نقد العقل المحض قراءةً أخرى فيه وتفلسُفًا بالعربيّة يُغني القول الفلسفي العالميّ. فلا توجد لدى وهبه همومٌ نضاليّة كما هو حال المثقف الذي ينشغل بسؤال (ما العمل؟) أي ما العمل لننهض بأمّتنا ومجتمعنا؟ ما العمل لنحقّق التّقدّم ونتخلّص من التّخلف؟ وهو بقي فيلسوفًا، بقي عاشقًا للحكمة وصديقًا ومحبًّا لها. فغلّب إرادة العِلْمان على إرادة العَمَلان معتبرًا أنّ ما يُحرّر من أقوالٍ فلسفيّةٍ باللغة العربيّة ما هو الّا بعطٌ فلسفيٌّ بالعربيّ حيث تُذبح الفلسفة كما تُذبح الشّاة لتحقيق غاياتٍ أخرى غير فلسفيّةٍ كالحديث عن دور الفلسفة في النّهوض العربي وعن الفائدة منها...الخ. وللتأكيد على ما ذهبنا إليه ننقل هذا المقطع من تقديم ترجمة كتاب المباحث المنطقية: "أتابع إذن التمرّن على قول الفلسفة بالعربي اليوم، وهذه المرّة على نصٍّ مفصليٍّ يطرح برنامج عملٍ فلسفيٍّ طويل الأمد، ويشكّل، في الوقت نفسه، عتبة دخولٍ إلى القرن الفلسفيّ المنصرم؛ عنيتُ نص المباحث المنطقيّة لإدموند هوسرل. […]. ممّا سيعني أنّ قارئ الفلسفة المعاصرة ومحبّها لا بد له من اجتياز هذه العتبة. وما سيعني، من ثمّ، عظم المهمّة الملقاة على مترجِم هوسرل إلى العربيّة التي لمّا تتمرّس بعدُ بما يكفي وبما يُرضي وبما يمكّن من قول فلسفة العصر، ومن قول العصر باختصارٍ، باللسان العربي المرهق اليوم بتراكم الملحون والغريب والثقيل. كان عليّ إذًا أن أكون دائم التنبّه وحاضر الحيلة من أجل أداء لغة هوسرل المعروفة بغناها الأفهومي وتشعّبها الثيْميّ، إنّما غير المشتهرة برشاقتها؛ ومن أجل التمكّن من أدائها من دون إلحاق ضررٍ بالغٍ بالمعنى ومن دون كبير إساءةٍ إلى السياق العربي".
2-مشكلة الميتافيزيقا
ليس سهلًا على المرء أن يتناول مسألة الميتافيزيقا في بداية الألفيّة الثالثة، فالميتافيزيقا باتت تُهمةً يُتّهم بها الخصم منذ أن أنهى كنط كلّ دعوًى ميتافيزيقيّةٍ بمعرفةٍ نظريّةٍ لما يتخطّى شروط التجربة في كتابه العظيم نقد العقل المحض. إذًا تنهار الميتافيزيقا الكلاسيكيّة بعد النّقد الكنطيّ أمام أعين الجميع. وأعني بالميتافيزيقا الكلاسيكيّة تلك الميتافيزيقا التي تتناول موضوعات الله والنّفس والعالم. فباتت الأسئلة التّالية بالرغم من أصالتها: هل الله موجود؟ هل النّفس خالدة أم فانية؟ هل الكوسموس متناهٍ أم غير متناه؟ خارج التناول الفلسفي، حيث لم نعد نرى في الكتب الفلسفيّة فصولًا تخصص لهذه المسائل. إذًا يتمّ إسكات الأسئلة المقلِقة وحصر الانهمام بالفيزيقا حيث يُقال للعقل: حذارِ أن تتعدّى حدود الطبيعة.
هكذا سادت مقولات نهاية الفلسفة ونهاية الميتافيزيقا وموت الميتافيزيقا ونهاية الحداثة وموت الإنسان وموت الذات، إلا أنّ وهبه لم يكترث لكل هذه النّهايات ولكل هذه الميْتات واعتبر أنّ الميتافيزيقا ما زالت حاجةً بشريّة لأنّها ما تزال قادرةً على إعطاء معنًى للسّعي البشريّ. وإنّ إهمال الميتافيزيقا يؤدي الى انتشار الأصوليات كالفطر، هذه الأصوليات التي تحتل الساحة التي تركها الفيلسوف لتعبث بها.
لنقرأ وهبه: "وأسأل: هل الميتافيزيقا ممكنةٌ اليوم، وكيف تكون ممكنة؟
وأبدأ الإجابة بالقول: ليست الميتافيزيقا، في الأصل، قدَرًا للعقل البشريّ، بل لحالةٍ مخصوصةٍ من أحواله، هي الحال الفلسفيّة. ومن الأسلم أن يُقال إنّ ما لا غنًى للعقل البشريّ عنه هو إضفاء المعنى على السّعي البشريّ بعامةٍ، وإنّ هذا الإضفاء ممكنٌ بأشكالٍ عدةٍ مبدئيًّا. لكن مع هيمنة الميتافيزيقا على المعمورة قاطبةً أضحى التّفكير الميتافيزيقيّ لا غنًى للعقل البشريّ عنه".
لكن ما هي الميتافيزيقا التي كان يعمل لها وهبه ويحاول رسمها؟
يقول وهبه: "وأتدبّر، بالمناسبة، فهمًا آخر، رسمًا آخر للميتافيزيقا، فأحسبها لا علمًا بالكائن بما هو كائن، ولا سأْلًا عن الكون، ولا مبحثًا في الغيبيّات، ولا تلك الشّجرة الوارفة الظّل، بل أقول هي بالأحرى جذع تلك الشّجرة، وجذورها المخفيّة في الأرض، إن صحّ لنا استثمار الاستعارة الديكارتيّة مرة أخرى.
أقول: الميتافيزيقا هي سستام المزاعم اللازمة للعقل البشريّ في مواجهة انهمامه بالأسئلة التي تطرحها عليه طبيعة العقل، أو تلك الفروض التي تسند القول في ما وراء الفيزيقا (بوصفها عالم التّجربة بما فيه السّعي النّظريّ والعمليّ والتّخيّلي). وعليه يمكن تمييز:
- مجموعة الفروض المعلنة المصوغة أو التي يمكن صوغها في سِستام، مثال ميتافيزيقا ديكارت أو ليْبنتس أو سواهما.
- من مجموعة الفروض المعلنة بوصفها بديلًا عن الميتافيزيقا، مثالًا: الأمثول والعلمان المطلق عند هيغل، والتّوق الى الإمرة والعود الأبدي للهوهو عند نتشه،[...].
- ومن مجموعة الفروض المضمرة التي قد تندرج ضمن سِسْتامٍ يعبِّر عن مذهبٍ ما في القول، أو عن روح تشكيلةٍ ثقافيّةٍ ما، [...]، مثال فروض التّفكير اليونانيّ المضمرة: ما يبدأ ينتهي، الشّبيه لا يدرك إلّا الشّبيه، الدّائرة أكمل الأشكال، البشر أحرارٌ أو عبيد..الخ. والمعنى أنّ الميتافيزيقا قائمةٌ أبدًا خلف كل تفكيرٍ له سمة الشّمول.
وحين يجرؤ العصر على صوغ مزاعمه المضمرة والمعلنة ويعترف بها كمزاعمَ لازمةٍ لسلام العقل في عالم اليوم السّوقي والدّيجيتالي، ويكون بالوسع إدراجها في سستامٍ بدعوى يونيفرساليّة يكون لدينا ميتافيزيقا للعصر".
هذا هو الفيلسوف الرّاحل موسى وهبه باختصار شديدٍ. ورغم رحيله، فإنَّه يبقى أستاذي الذي تتلمذت عليه في الليسانس والماجستير والدكتوراه ويبقى كذلك حتى آخر يومٍ من عمري. وعليه فإنَّ وهبه ليس مجرّد ناقِلٍ، بل فيلسوفٌ علينا أن نشتغل طويلًا على نصوصه لنستخرج منها طريقته المبتكرة في التساؤل والتفلسف ومذهبه الفلسفي الذي تميَّز به. وأخيرًا نقول: اشتقنا له كثيرًا.