في مجموعته القصصيّة "أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها" الصّادرة عن دار الشروق مطلع عام 2024 يبدأ طارق إمام نصوصه بملامح حداثيّة، أعطتْ اللّغة طريقًا دلاليًّا مستقيمًا يرتبط بالخيال لدى المتلقّي والواقع المُعاش في آن، فضلًا عن توظيف التكثيف في سبيل خلق إيقاعٍ داخليّ نصّي يجعل القصص كناية عن مشاهد يوميّة تنطلق من الذاتيّة نحو الفضاء الاجتماعيّ الجامد.
اللغة بين شعريّة اللحظة والتصوير
أخرج إمام نفسَه من لعبة المستويات التي بُنيت عليها المناهج النقديّة السائدة، لا سيّما المستوى التصويري أو المعروف مدرسيًّا بالمستوى البلاغي؛ فالقصص انطلقت من الجانب النفسي بعيدًا من النظام اللساني أو اللغوي، وهنا تكمن الشعريّة الحديثة.
الكاتب عمل على بناء المدينة أو ملامح الأمكنة فيها وفقًا لمَا يراه أو وفقًا لما يلاحظه؛ ففي نصّه "كلانا ضيف الآخر " يظهر صاحب "ماكيت القاهرة" قدرته على اجتزاء أمكنة من رحم المكان الأكبر ليعكس في داخله شعريّته "لقد دخلت المدينة بيتي كثيرًا، فيما، مرّة بعد مرّة أميل بجذعي..."(ص.15 ).
يظهر البيت هنا على أنّه مرسم لعاطفة الكاتب الذي يملك خاصيّة اجتماعيّة تسمّى الملاحظة، التي ساعدته في تتمّة السياق على إكمال تصوير المشهد" واقفًا على بابي المفتوح، كي أفسح طريقًا لضحاياها..."(ص.15).
والانتقال هنا من سياق خبريّ محض إلى سياق تصويري اجتماعيّ يسوّغ أمرين: الأوّل الاِستخدام المتتالي لضمير المتكلّم "أنا " المتّصل بالأفعال، والثاني سلاسة اللغة ومباشرتها في سبيل رسم عمليّة تلقٍّ متكاملة.
بدأ البنيويّون الأوائل بدعم فكرة مبنيّة على أنّ النّص ينطق بحدّ ذاته، وانقلبتْ عدّة مدارس نقديّة على هذه المدرسة خاصّة أنّ اللغة باتتْ جزءًا من كلّ يُبنى عليه النّص عادة.
وما عمل عليه طارق إمام في سبيل الوصول إلى الشّعر هو الموازنة بين الفكريْن عبر اتّخاذ التكثيف من قصيدة النّثر، وهذا ما أفقده القدرة على الاستمرار في القصّ والحفاظ في المقابل على القدرة على خلق مشهد من خلال التمسّك بعنصر التخيّل: "الله، لن يتأخّر، طالما وطأت قدم بشريّة هذه اليابسة"(ص 19).
الرؤية إلى الذات وثنائيّة الهدم والبناء
شكّلت النّصوص، التي حملت عنوان "هايكو المدينة"، سلسلة مواقف، حوّلتها الوتيرة الإيقاعيّة اللغويّة السريعة إلى الذات دون أيّ مؤثر خارجي.
والحقّ أنّ العناصر المكانيّة مثل الشارع/ المدينة/ المدارس مؤثّرات خارجيّة تفسَّر -على الصعيد التحليليّ- على أنّها في بعض السياقات محرّضات للتعبير عن الذات والانفعال. لكنّ طارق إمام انطلق من الذات لخلق معانٍ أخرى لهذه المؤثّرات: "الطفل في البيت لا ينمو/ البيت يكبر فيه" ( ص60 ).
قد يشكّلُ البيت والمدينة رمزيْن لدى إمام الذي بدأ محاولة تشكيلهما من خلال روايته "ماكيت القاهرة" على الأقلّ، حيث تكرّستْ معادلة الهدم والمحْو على صعيد التجربة والأزمنة، إلّا أنّ عدوى الهدم تلازمت مع خاصيّة البناء التي يُريدها الكاتب في لا وعيه من خلال فهم الواقع، وتفسير الحاضر من خلال التأويل.
تظهر ملامح الهدم والبناء أيضًا من خلال نصوص تجاوزت الهايكو والمنحى الشعريّ، بدءًا من التساؤل الذي حمله نصّ "الزوار" بعيدًا من الأسلوب الاِستفهاميّ اللغويّ التقليديّ "الأرض ترى السماء حبل غسيل ضخم... كسَحَتْها يدٌ إلى البالوعة" (ص 82).
المنحى الإيقاعي تجلّى في مشهديّة الجمال أوّل السياق، ونقيضه الدراميّ في آخر السياق، ممّا يظهر شكلًا أقرب إلى المقابلة المستخدمة كأداة موسيقيّة شعريّة، لكنّ النبرة التساؤليّة تطغى بقدر أكبر لكونها تنضوي في سياق مشهديّ.
اِهتمّ طارق إمام بالشعريّة التي اِعتمدتْ على المنْحى الاِجتماعيّ والنّفسي المنطلق من ذاته ومحاولة الإدراك، ممّا شكّل خروجًا عن منطق القصّ السّائد المبنيّ على الحدث والشخصيّة؛ وهو ما يشكّل خطوة ثانية في مسار الهدم والبناء الأقرب إلى التفكيك لتكون نصوص المجموعة إيقاعيّة تحرّض المتلقّي على اكتشاف قصّته الخاصّة من خلال المشاهد المعروفة والقريبة من الشعر.
خرجتْ أقاصيص طارق إمام من عنق النّص المعروف تاركةً المتلقّي يُكمل قصصه العالقة من خلال السرد المتحرّر من تقنيات ثلاث: الزمان والمكان والشخصيّات...
وإذا كان حجم النّصوص هو عمرها وفقًا لأوّل معنى يظهره العنوان، فإنّ الغاية الكتابيّة التي تبنّاها الكاتب على صعيد الدلالة والتقنيّة تؤكّد أنّ النّصَ جسدٌ مغزاه أكبر من حضور أصحابه.