صلاح الدين ياسين
كتاب من تأليف نادر هاشمي أستاذ مشارك لسياسة الشرق الأوسط والسياسة الإسلامية في كلية جوزيف كوربل للدراسات الدولية بجامعة دنفر، ترجمه إلى العربية أسامة غاوجي، تتمحور إشكاليته الرئيسة في أن الديمقراطية الليبرالية تتطلب الحد الأدنى من العلمانية، إلا أن جل المجتمعات والنخب الإسلامية لازالت محكومة بمرجعيات دينية لاهوتية، مما يطرح جملة من التساؤلات حول مدى قابلية الديمقراطية للتبلور في السياق الإسلامي. فهل هذا يعني حتما بأن الديمقراطية والحداثة مستحيلة التحقق في الشرط الإسلامي؟ وهل الطريق إلى التحديث يمرّ حتما بالقطع مع السياسات الدينية؟ ما أسباب الرفض والجفاء الذي تواجهه العلمانية في المجتمعات الإسلامية وكيف السبيل إلى تجاوزه؟
في نقد أطروحة "الاستثناء الثقافي للإسلام"
يعترض الكاتب بشدة على مقولة "الاستثناء الثقافي للإسلام" التي يروج لها دعاة أطروحة صدام الحضارات ونظرية التحديث، ومفادها أن العائق الأساسي الذي يحول دون تقدم دول العالم الثالث نحو الديمقراطية الليبرالية هو الدين، وعلى الأخص الإسلام فيما يتعلق بالنطاق الموضوعي لهذا الكتاب، بالنظر لتوفر جوانب صلبة في العقيدة الدينية معادية لقيم الديمقراطية والحداثة، مما يستحيل معه استنبات الحداثة السياسية في التربة الإسلامية.
وفي هذا الصدد، يذكر المؤلف دعاة تلك الأطروحة المبتذلة بأن تطور الديمقراطية والتحديث في السياق الغربي قد اصطدم بجملة من العراقيل والمثبطات قبل أن تنضج شروطه، ولا سيما العقيدة المسيحية في نسختها الكاثوليكية، إذ لطالما جرى النظر إليها على أنها ديناً أصولياً معادياً للحداثة، وهو ما جسده تحالف الكنيسة مع السلطة الاستبدادية والذي ضيق الخناق على الأفكار الجديدة التي تبلورت في عصر التنوير الأوروبي، هذا قبل أن يخضع المذهب الكاثوليكي لعملية إعادة صياغة في ستينيات القرن الماضي، مما أفضى إلى تحول موقف الكنيسة ومن ثم دورها الإيجابي في الموجة الثالثة من التحول الديمقراطي كما يسميها صمويل هنتغتون، والتي عرفتها مجموعة من دول شرق أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
ومن نفس المنطلق، يرى نادر هاشمي بأن ظاهرة الأصولية الدينية ليست حكراً على المجتمعات الإسلامية، إذ عرفت أوروبا في بدايات عصر الحداثة ظهور حركات دينية متزمتة (مثل البيرونية) كنتيجة لصدمة التحديث، ومن ثم يصعب القطع بأنّ الظاهرة الأصولية متأصلة في الجوهر الثقافي للمجتمعات المسلمة، بقدر ما هي محصلة للشعور بالضياع والاغتراب والتفكك الذي يصاحب عملية التحديث بفعل الإحساس بالخطر على الهوية الأصلية (ضمور السلطة الأبوية والقيم التقليدية في مقابل صعود قيم الفردانية والاستقلالية...). وعليه، فإن الأصولية الدينية لا تعدو كونها ظاهرة عابرة ومؤقتة، إذ ما تلبث أن تزول بمجرد استعادة الشعور بالأمن والنظام والاطمئنان بعد زوال الصدمة الأولية للتحديث.
هل تعد القطيعة مع السياسات الدينية شرطا ضروريا لإنجاز التطور السياسي؟
بما أن نظرية التحديث تزعم بأن الدين هو العائق الأساسي أمام تبني مجتمعات العالم الثالث بما فيها الإسلامية لمبادئ الديمقراطية والحداثة، فإنها تقر بأن العلمنة الجذرية وفرض قطيعة صارمة مع الدين هو الحل الوحيد لانتقال تلك المجتمعات إلى الديمقراطية الليبرالية، غير أن المؤلف لا يبدو متحمساً لهذا الرأي بالنظر إلى أن الدين يعدّ محدداً رئيساً للهوية في المجتمعات الإسلامية. ومما يزكي ذلك، أن غالبية مفكري عصر التنوير الأوروبي لم يؤسسوا أفكارهم ونظرياتهم الحداثية على أنقاض المسيحية، بقدر ما شرعوا في إعادة تأويل النصوص الدينية اللاهوتية لإثبات عدم تعارضها مع قيم الحداثة ومبادئ التسامح والتعددية والإخاء التي يدعون إليها. ومن ثم، فقد انبثقت الديمقراطية الليبرالية من صلب السياسات الدينية نفسها وليس بمعزل عنها بعد الشروع في عملية إصلاح ديني عميقة.
ويضرب نادر هاشمي مثلاً على ذلك بالمفكر الإنكليزي جون لوك بوصفه أحد أهم أعلام عصر التنوير الفكري، فقد كان هذا الأخير يدرك بأن غالبية فئات وشرائح المجتمع محافظة دينياً، ولهذا فقد اتخذ من إعادة تأويل النصوص الدينية للمسيحية منطلقاً لصياغة نظرياته الفكرية، صدوراً من منهج تفسيري عقلاني ومنفتح على روح العصر، بحيث سعى إلى إثبات بأن قيم التسامح وحرية الضمير والتعددية المذهبية لا تتنافى مع جوهر المسيحية الحقة، كما اعتبر بأن نظرية الحق الإلهي المقدس للملوك كأساس لشرعنة السلطة السياسية ليس لها أي أساس في النصوص الدينية.
العلمانية وسؤال تبيئتها في المجتمعات الإسلامية
إن العلمانية وإن كانت تحيل من الناحية النظرية إلى الفصل وإقامة التمييز بين السياسة والدين، بحيث تأخذ الدولة العلمانية مسافة واحدة من جميع الأديان القائمة ولا تضع قوانينها على أساس ديني، فإنه ثمة صيغ تطبيقية متباينة للعلمانية كما يشير إلى ذلك المؤلف، وهنا وجب التمييز بين النموذج الأنكلوأمريكي من العلمانية المعتدلة المتسامحة مع الدين والنموذج الفرنسي من العلمانية الجذرية (اللائكية) والذي يرفض أي حضور للتعبيرات الدينية في الحيز العام (حظر ارتداء الرموز الدينية في مؤسسات الدولة كالمدارس، عدم استحضار الدين كمرجعية في النقاش العام حول قضايا وتشريعات معينة مثل الإجهاض)...
إن حقيقة وجود نماذج متباينة من العلمانية يفيد ضمنا بأن المجتمعات الإسلامية بوسعها أن تبدع نموذجها الخاص الذي يراعي خصوصياتها المحلية، وهنا يحيل الكاتب إلى منظور عالم السياسة الأمريكي الراحل ألفرد ستيبان (1936-2017) كمرجعية يمكن الانطلاق منها بخصوص النقاش حول العلمانية في المجتمعات الإسلامية، والذي يقوم على مفهوم "التسامح المزدوج"، بمعنى أنه يجب أن تتمتع الحكومة المنتخبة ديمقراطياً بالحق في اتخاذ قراراتها بمعزل عن تدخل الجماعات الدينية، كما ينبغي أن يحفظ للأخيرة استقلاليتها في ممارسة شعائرها الخاصة واتخاذ مواقف سياسية عامة دون اللجوء إلى العنف وفي إطار الضوابط الدستورية والقانونية.
وفيما يخص السمعة السيئة التي اكتسبتها العلمانية في جل بلدان العالم الإسلامي، فإن هذا يعزا أساساً كما يرى المؤلف إلى أنها ارتبطت بتجربة التحديث القسري التي دشنها الاستعمار واستأنفتها النظم الاستبدادية في دولة ما بعد الاستقلال، فخلافاً لسياق نشأة العلمانية في الدول الأوروبية حيث نبعت من أسفل المجتمع إلى الأعلى وكانت وليدة تطور ذاتي بعد عملية إصلاح ديني وفكري عميق، فإن العلمانية في المجتمعات الإسلامية مرت بتطور معاكس، إذ كانت سابقة للإصلاح الديني ولم تكن وليدة سيرورة تطور محلية بقدر ما كانت مفروضة من الخارج. وعليه، لا مناص بنظر الكاتب من الشروع في عملية إصلاح ديني نابعة من أوساط الفكر الإسلامي ذاته لكي يتحصل القبول الشعبي للعلمانية، وهنا يضيء المؤلف على بعض التجارب المضيئة لمجتمعات إسلامية أفلحت في تكييف خصوصياتها المحلية مع الحد الأدنى المطلوب من العلمانية مثل تركيا وإندونيسيا.