صدر قبل أيام آخر مؤلفات وكتب احد اكثر اللاعبين والسياسيين اللبنانيين اثارة للجدل المحامي كريم بقرادوني الذي خص "حليفه" رئيس الجمهورية السابق ميشال عون بهذا الكتاب تحت عنوان "ميشال عون رجل التحديات" . يقع الكتاب في 584 صفحة من الحجم الوسط وصدر عن دار كنعان للنشر والتوزيع ويتوزع على خمسة أقسام وخاتمة . يحرص المؤلف كريم بقرادوني في مقدمة الكتاب على التنويه بان "الجنرال على علم باني في صدد اصدار كتاب عنه غير انه لم يطلع على مضمونه قبل صدوره وكل ما ورد فيه هو على مسؤوليتي الشخصية ويعبر عن وجهة نظري حول مسيرة ميشال عون ومساره. وليكن واضحا للقارئ أني لست في صدد كتابة تاريخ ميشال عون بل في صدد ما سمعته من أقوال وشاهدته من أفعال منذ ان تعرفت به للمرة الأولى عن طريق بشير الجميل في العام 1980 ".
تنشر "النهار" في ثلاث حلقات مقتطفات ومختارات من ثلاثة أقسام في الكتاب بمعزل عن أي تقويم مهني او سياسي مسبق للكتاب الذي قد نخصص له لاحقا حلقة منفصلة ، بل فقط لمجرد الإضاءة على هذا الإصدار الجديد لبقرادوني الذي يعد من اوثق حلفاء الزعيم والرئيس الذي كتب عنه علما ان السرد التفصيلي للوقائع يغلب على الكتاب .المقتطفات في الحلقة الثالثة والاخيرة تتناول نهاية عهد عون تحت عنوان "السنوات العجاف".
عشية عيد الاستقلال الثامن والسبعين ألقى ميشال عون كلمته الأخيرة في هذه الذكرى بصفته رئيسًا للجمهورية وقد ضمّنها بعض النقد الذاتي لعهده الذي لم يبقَ منه سوى سنة واحدة فقال:إن الوطن لا يزال غارقًا في بحر الأزمات المتلاحقة التي تمنعنا من عيش فرحة العيد . وعدّد ثلاث أزمات: الأزمة مع السعودية والأزمة المالية وأزمة القضاء.
تناول الأزمة مع السعودية التي تسبّب بها الوزير جورج قرداحي من دون أن يسمّيه ليخلص إلى القول "بضرورة الفصل بين مواقف الدولة اللبنانية، وبين ما يمكن أن يصدر عن أفراد أو جماعات، خصوصًا وأن النظام الديمقراطي في لبنان يضمن حرية الرأي والتعبير...". ثم تطرّق إلى الأزمة المالية فصارح الناس قائلًا: "أنتم تريدون المحاسبة، تريدون أن تروا من عاث في البلاد فسادًا، ومن سرق وأهدر أموالكم... ودومًا تطرحون السؤال البديهي: لماذا لم يوضع أحد وراء القضبان بعد؟ والجواب: أن المحاسبة بيد القضاء، وما خلا ذلك اتهامات إعلامية قد تصيب وقد تخيب، ولا يمكن لأحد أن يدخل السجن من دون حكم قاضٍ”.
وكان من الطبيعي أن يتوجّه عون إلى القضاة فيقول لهم: "الجميع يتّهم الجميع، والجميع متّهم... وليتذكر الجميع، سياسيين وروحيين وقضاة، أنه إذا كان القضاء بخير الوطن بخير"....
ثم توجّه عون إلى الشعب قائلًا: رسالتي إليكم اليوم أن قريبًا ستتاح لكم فرصة التغيير، اجعلوا من صندوق الاقتراع سلاحكم ضدّ الفساد والفاسدين... وأمامكم فرصة لإيقافهم فلا تهدروها.... بالطبع هذه الفرصة التي يشير عون إليها هي الانتخابات النيابية المقرّرة في أيار 2022.
وعلى عادته خصّ عون العسكريين بكلام مباشر فقال: أنتم من هذا الشعب، وأنا منكم، وأعرف جيدًا أوضاع مؤسستكم وتداعيات الأزمة الاقتصادية والمعيشية عليها، وأكمل: لا تدعوا اليأس يتسلّل إلى قلوبكم. أنا أعيش معكم حجم معاناتكم، وأسعى جاهدًا للتخفيف من حدّتها....
وختم خطاب الاستقلال بالقول: “في رسالتي الأخيرة لكم بهذه المناسبة، ليكن إيمانكم بوطنكم أكبر من أي تشكيك، فهذا الوطن واجه عبر تاريخه تحدّيات ونكبات شتّى، وخرج منها معافى مهما بلغت الصعوبات”.
وتحت عنوان رسالة مصارحة إلى اللبنانيين، ألقى عون كلمة متلفزة
في 27 كانون الأول 2021 وقد بات على حدّ قوله "من الضروري أن يكون الكلام أوضح، لأن المخاطر تكبر وتهدّد وحدة الوطن." واستفاض قائلًا: كنت قد فضّلت على مدى سنوات ولايتي أن أعالج الأزمات بالعمل الصامت. نجحتُ في بعض الأحيان ولم أوفّق في أحيان أخرى. وحاولت أن أمنع الانهيار، ودعوت إلى أكثر من لقاء ومؤتمر، وطرحت حلولًا، ولكن أهل المنظومة رفضوا أن يتخلّوا عن أي مكسب، ولم يحسبوا أي حساب للناس. وعندما وقع الانهيار دعوت إلى الحوار مع الذين نزلوا إلى الشارع، لكنهم رفضوا أيضًا واختبأوا خلف شعار “كلن يعني كلن”.استطرد عون: مع حصول الانهيار، لم أستسلم، ولن أستسلم، ولا أزال أعتبر أن الحل ممكن من ضمن وثيقة الوفاق الوطني، ويقتضي أولًا إجراء المحاسبة، أي تحديد المسؤولية عن الانهيار... كما يقتضي الحلّ الانتقال إلى دولة مدنية، ونظام جديد ركيزته الأساسية اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة. ويجب أن تشكّل الانتخابات النيابية المقبلة استفتاء على هذا الأساس”.
أكد عون مجدّدًا أن مشروعه هو بناء الدولة، لكن هذا المشروع يواجه بالتعطيل. عدّد أنواع التعطيل: تعطيل المجلس الدستوري، تعطيل خطة التعافي المالي، تعطيل الحكومة، تعطيل التدقيق الجنائي، تعطيل الحوار مع دمشق لإعادة النازحين السوريين. وشدّد على أن العرقلة “تساهم في تفكيك الدولة”، وتساءَل: “أين أصبح قانون الكابيتال كونترول؟ أين قانون استعادة الأموال المحوّلة إلى الخارج؟ أين قانون كشف الفاسدين وحسابات وأملاك القائمين على الخدمة العامة؟ أين قانون ضمان الشيخوخة؟ لماذا التأخير في إقرار القوانين الإصلاحية؟ لماذا التأخير بالمصادقة على قطوعات حسابات الدولة؟” وتساءل: “هل لا يزال اللبنانيون متفقين على وحدة الدولة؟ أم سقط النظام وأصبح كل واحد يبحث عن مصلحته؟ في الوقت الذي تقترب فيه الحلول في المنطقة، نرى الحلّ يبتعد في لبنان... وهذا أمر غير مقبول”.
رأى عون أنه “يجب أن نبقى في وطن واحد وفي دولة واحدة، إنما يجب أن نتعلّم من التجربة، وأن نعدّل نظام الحكم كي تصبح الدولة قابلة للحياة... ولن أقبل أن أكون شاهدًا على سقوط الدولة واختناق الناس، وسأبقى أعمل حتى آخر يوم من ولايتي ومن حياتي لمنع ذلك”.
وفي الخلاصة دعا عون “إلى حوار وطني عاجل من أجل التفاهم على ثلاث مسائل: اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة، الاستراتيجية الدفاعية لحماية لبنان، خطة التعافي المالي والاقتصادي بما فيها الإصلاحات اللازمة والتوزيع العادل للخسائر”.
وعلى بعد شهرين من الانتخابات النيابية، وتسعة أشهر من الانتخابات الرئاسية، صارحني الرئيس عون في أواخر آذار 2022: “لن أترك موقعي إلّا وأكون قد كشفتُ الفاسدين، وشجعتُ الأوادم والشجعان على تسلّم مقاليد الحكم، بعد انتهاء ولايتي”. استفاض الرئيس في هذا الكلام أثناء استقباله اعضاء المجلس التنفيذي للرابطة المارونية المنتخبين مؤخرًا برئاسة السفير خليل كرم، الماروني المنفتح في الداخل والمدرك حجم التحولات الجارية في العالم، وقال لهم : جاهدتُ لإقرار قانون التحقيق المالي بعد حرب ضروس تذكرون تفاصليها جميعكم على أساس أن المسؤول الأول عن المحافظة على النقد وقيمته هو المصرف المركزي، والمسؤول عن صناديقه هو حاكم مصرف لبنان. وكشف أمام الرابطة المارونية: واجهت من البعض العراقيل والضغوط في سعيي إلى إقرار التحقيق الجنائي وقد مارس هذا البعض في وجهي كل ما استطاعوا لعدم إقرار قانون الكابيتال كونترول، فطارت ودائع المودعين، وهربت رؤوس الأموال إلى الخارج، وما نعيشه اليوم هو نتيجة ممارسات هذا البعض طوال سنوات سابقة. وعندما حاولتُ تطبيق الدستور، اتّهموني بتطبيق النظام الرئاسي، فيما هم يعملون على إفلاس لبنان بدلًا من إصلاح الوضع فيه، وإعادة استنهاض اقتصاده...”. وخلص عون إلى القول: “ما بدي أعمل نظام رئاسي، بدي أعمل رئيس”.
وفجأة طغى على العالم في 21 شباط 2022 إعلان الرئيس الروسي
فلاديمير بوتين أن الولايات المتحدة والحلف الأطلسي يعملان على تحويل أوكرانيا إلى دولة تهدّد الأمن القومي الروسي، فأمر بالهجوم عليها.
وعلى قاعدة أن لكل حدث خارجي تداعيات داخلية في لبنان، صدر في 24 شباط 2022 بيان عن وزارة الخارجية اللبنانية أدان فيه الاجتياح الروسي. لم يوافق الرئيس عون على هذا البيان وأبلغ بواسطة جبران باسيل السفير الروسي في لبنان ألكسندر روداكوف أن البيان لا يعبّر عن رأيه، وليس هناك إجماع لبناني حوله. غير أن الواقعة قد وقعت، ولم يخفِ نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف استياءَه فقال أمام زواره اللبنانيين: “إن بيان وزارة الخارجية اللبنانية الذي حمل عبارات الاجتياح والغزو أغضبنا”، وتساءل: “ماذا جنى لبنان من هذا البيان؟ وهل أصدرتموه استرضاءً للولايات المتحدة الأميركية...؟” ولا ريب أن هذا البيان شكّل غلطة ديبلوماسية ارتكبتها الحكومة اللبنانية في غير محلها ومن دون أي مردود لصالح الدولة.
وعلى الرغم من اندلاع حرب أوكرانيا وتصاعد حرب اليمن وتراكم الأزمات الداخلية، أصرّ الرئيس عون على إجراء الانتخابات النيابية في موعدها في 15 أيار 2022. فاجأني نجلي جهاد بقرار ترشيحه عن دائرة بيروت الأولى، وتشكيله لهذه الغاية فريق عمله، وهو على تواصل مع الدكتور سمير جعجع، ولا يستبعد الانخراط في لائحة القوات اللبنانية التي يترأسها نائب رئيس الحكومة اللبنانية
غسان حاصباني. وبسؤالي عمّا دفعه إلى خوض هذه المعركة الصعبة في هذه الأوضاع الأصعب، أجابني جهاد بكل وضوح: “بعد انفجار المرفأ في 4 آب، قرّرت مساعدة الأهالي، ودهشتُ لغياب الدولة بصورة لا يتصوّرها عقل باستثناء الجيش اللبناني الذي حضر إلى المناطق المنكوبة فمنع السرقات والاقتتال بين الناس. لم أرَ رئيسًا أو وزيرًا أو نائبًا أو مديرًا قام بمجرد زيارة مؤاساة. واستغربت أن يكون أول مسؤول زار المنطقة المنكوبة بعد يومين من الانفجار هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فاستقبله الأهالي استقبال الفاتحين”. وأنهى جهاد كلامه قائلًا: “لا معنى لانتخابات 2022 إذا لم تنقل اللبنانيين من حال اللادولة إلى حال الدولة، وأن تساعد ضحايا 4 آب الذين فقدوا كل ما لديهم وباتوا بلا مأوى وبلا عمل وبلا طعام. لذا أترشح وآخرين لتحقيق هذه الغاية”.
طلب مني جهاد أن أؤسّس له جمعية أسماها “بـ بيروت”، لمساعدة منكوبي المرفأ، ورأى بداية فريق العمل الذي شكّله أن الأولوية في ترميم المنازل المصابة لاقتراب فصل الشتاء. وفيما كان فريق من جمعية “بـ بيروت” يحصى بعض المنازل المدمّرة، ولج منزلًا تسكنه امرأة وأربعة أولاد، فأخبروها أنهم على استعداد لترميم الجزء المدمّر من بيتها فأجابتهم: “نحن اعتدنا أن نعيش تحت الدلف، ولكن ما نحتاجه حاليًا هو الطعام، نحن جوعانين”. لم يسمع اللبنانيون كلمة “جوعانين” منذ الحرب العالمية الأولى حين حاصر الجيش العثماني جبل لبنان وصادر كل القمح والطحين.
صُدم جهاد وفريق عمله بكلام تلك المرأة، وقرّروا أن يخصّصوا كامل المساعدات المتوافرة لديهم لإطعام العائلات الأكثر فقرًا، وما زالت جمعية
“بـ بيروت” تُطعم هؤلاء “الجوعانين”، مع الاشارة انه لم يصلها أي مساعدة من الدولة اللبنانية ولا من أي جهة أخرى، وهي تموّل نشاطها الاجتماعي من القيّمين عليها وأصدقائهم.
جرت الانتخابات في ظل أمن ممسوك رعاه الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي وبصورة حيادية لم تميز بين المرشحين، ولم تنحز لتكتل ضد تكتل. وجاءت النتائج على الشكل التالي:
• تكتل «الجمهورية القوية» التابع للقوات اللبنانية: 19 نائبًا.
• تكتل «لبنان القوي» التابع للتيار الوطني الحرّ: 17 نائبًا.
• تكتل «التنمية والتحرير» التابع لحركة أمل: 15 نائبًا.
• تكتل «الوفاء للمقاومة» التابع لحزب الله: 15 نائبًا.
• تكتل «التغيير»: 13 نائبًا.
• تكتل «المستقلين»: 12 نائبًا.
• «اللقاء الديمقراطي» التابع لحزب التقدمي الاشتراكي: 8 نواب.
• تكتل «الاعتدال الوطني»: 6 نوّاب.
• تكتل «التوافق الوطني»: 5 نوّاب.
• كتلة «الكتائب اللبنانية»: 4 نوّاب.
• كتلة «التجدد»: 4 نوّاب.
• التكتل «الوطني المستقل» التابع لتيار المردة: 4 نوّاب.
• «حزب الطاشناق»: 2 (نائبان).
• كتلة «وطن الإنسان»: 2 (نائبان).
• «جمعية المشاريع الخيرية (الأحباش): 1 (نائب).
• «الجماعة الإسلامية»: 1 (نائب).
في قراءة أوليّة يتبيّن بأن الرابح الأكبر في انتخابات 2022 هي القوات اللبنانية، وان الذي حافظ إلى حد ما على تمثيله النيابي هو التيار الوطني الحرّ، أما الخاسر الأكبر فكان سعد الحريري لعدم مشاركته بالانتخابات فغاب عن المعادلة النيابية. أثبت حزب الله أنه ما زال يملك “فائض القوة” لكنه لم يحل دون سقوط بعض حلفائه البارزين كطلال إرسلان وأسعد حردان ووئام وهاب. لم يعد مجلس النواب مشكلًا من أكثرية وأقلية بل من أقليات متحركة تتبدّل بتبدّل المواضيع والظروف، ولم يعد بإمكان فريق واحد أن يتحكم بمجلس النواب ولا برئاسة الجمهورية….
وفيما كان المسؤولون يتساجلون حول جنس الحكومة كانت الأوضاع المعيشية والخدماتية تقترب من حالة الانهيار الشامل: المعامل الحرارية تغلق أبوابها بسبب استحالة تمويلها بالفيول، أزمة دفع الرواتب في القطاع العام وتأخرها شهرًا بعد شهر، كارثة الكهرباء التي باتت مقطوعة بصورة كاملة مع تداعياتها على كل الصعد، انقطاع المياه عن العاصمة والعديد من المناطق، انفلات لا يصدّق في أسعار المحروقات والغذاء والدواء، فقدان أمل المودعين باستعادة ولو جزء من الودائع التي فرّطت بها المصارف، ناهيك عن الحملة التي شنّها النائب الجريء والجدّي وائل أبو فاعور الذي كشف عن “فساد الطحين” نتيجة فساد القمح.
في المحصلة عون وميقاتي في حالة طلاق، فلا حكومة في عهد عون، ولا تحقيق جنائي، ولبنان ينزلق بقوة نحو أخطار الفراغين أي الفراغ الحكومي والفراغ الرئاسي على ما جاء في العنوان الرئيسي لجريدة" النهار"...
يوم 12 آب 2022 التقيت الدكتور سمير جعجع في مقرّه بمعراب وأخبرته أن لديّ بعض الأسئلة أطرحها عليه تعود لعلاقته بعون. استمع الحكيم إلى أسئلتي وقال لي: “أنا فهمت ما تريد مني وسأجيب على أسئلتك دفعة واحدة”.
تكلّم قائد القوات اللبنانية قرابة الأربعين دقيقة من دون توقّف بدا خلالها صريحًا وقاسيًا إلى أقصى الحدود. وجاء معظم كلامه وهو يمشي الهُوَينا داخل مكتبه. عند سماعي ما قاله قرّرت أن أنقل كلامه كما نطق به حرفيًا وبالعامية بالنظر إلى أهميّته وأبعاده، كما قرّرت إغفال بعض النعوت غير المألوفة سياسيًا، لا سيما وأني ما زلت أراهن في قرارةُ نفسي على ضرورة قيام جبهة لبنانية تضمّهما وسائر التيارات والأحزاب والشخصيات الملتزمة القضية اللبنانية.
استهلَّ جعجع كلامه فقال: “ما تركتُ شي بينعمل حتى أتحاشى القتال بين القوات وعون في حرب الإلغاء، إنطلاقًا من قول الإنجيل لا تقاوم الشرير بل يقتضي تجنّبه، وأسميتُ ما حصل بالمأساة الإغريقية (tragedie grecque). أنا الشي المنيح بقول عنّو منيح والشي السّيىء بقول عنّو سّيىء بغضّ النظر عن شعوري تجاه الشخص المعني، وهذا الأمر ينطبق على عون”.
واستطرد: “في ما يتعلّق برئاسة الجمهورية عام 2016، كان الخيار بين عون وفرنجية. أنا حطّوني بالزاوية عندما قرّر سعد الحريري ونبيه بري ووليد جنبلاط دعم سليمان فرنجية، ما عاد عندي خيار سوى دعم ميشال عون على الرغم من أنّي ما زلت أذكر يللي عملو عون في الماضي وعارف إننا غير نوعية وغير قماشة. لكن اعتبرت بالوقت ذاتو، بعد ليالي وليالي من التأمّل، إنّو رح تكون فرصة نختم فيا الجرح المسيحي لا سيما إنّو ما كان حدا يزورني أو حدا يصرّح من المسؤولين السياسيين إلّا ما يناشدنا أن نتفق وإنّو خلّصونا من خلافاتكم مع إنّو هالخلافات ما كانت يومًا ذات طابع شخصي... كمان اعتبرت إنّو هالاتفاق رح يقوم على أسس ثابتة ومتينة ببنوده العشرة يللي تليت من معراب أمام كل الحضور والصحافة اللبنانية والدولية، وبحضور عون نفسو، فأيّدت دعم ترشيح عون للرئاسة. ويللي عزّز توجّهي لخيار عون هو خيار اللبنانيين أنفسن، والرأي العام المسيحي بالذات، يللي منحوا الأكثريّة لعون، وبالتالي قلت بأسوأ الحالات ما بكون عم عاكس هالتوجّه على أمل هالمرة يطلعوا اللبنانيي معن حق بموضوع عون وأنا إطلع مغلّط بنظرتي إلو. بس للأسف خاب أملن وتأكّدت نظرتي مرة جديدة، مع أنو فكرت إذا صار رئيس جمهورية بعمر الـ 82 سنة رح يكون حقّق أقصى ما يريد، ورح يحكم بشيء من المنطق والواقعية. لكن اكتشفت إنّو المشكلة تتعلّق بشخصية ميشال عون وإنّو في شخصيتو عطب جوهري وأساسي وليس قضية سلطة وحكم. راجعت تجربتو معي فتبين لي إنو في كل مرة تنتهي التجربة بخراب ودمار كامل، وتسليمه الأمور لجبران باسيل لأنّو جبران نسخة غير منقّحة عن ميشال عون، وميشال عون يرى نفسه بجبران”.....
مع بدء العد العكسي لمهلة انتخاب رئيس الجمهورية، حشد نبيه بري جمهورًا غفيرًا في 31 آب 2022، الذكرى السنوية لتغييب الإمام موسى الصدر ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين. اعتلى المنصّة تحت شمس حارقة ليوزّع رسائله في أكثر من اتجاه، والتي شملت الاستحقاقين الحكومي والرئاسي. حدّد مواصفات رئيس الجمهورية المقبل على النحو التالي: “شخصية تجمع ولا تطرح ولا تقسّم، توّحد ولا تفرّق، لديها حيثية وطنية، مسيحية وإسلامية، مؤمنة بالثوابت الوطنية والقومية، وتعتقد اعتقادًا راسخًا أن إسرائيل تمثّل تهديدًا وجوديًا للبنان، وهي النقيض لدوره ورسالته في المنطقة...”.
نادى برى إلى توافق وطني عامّ حول الاستحقاق الرئاسي، وهو من دعاة “الرئيس التوافقي”، كما دعا إلى انتخابات رئاسية في موعدها الدستوري، وأشار إلى وجود “إرادات خبيثة لإسقاط البلد في الفراغ”. أخيرًا فتح النار على جبران باسيل متسائلًا في موضوع الكهرباء: هل يوجد في العالم بلد “بتغذية صفر كهرباء”، وتكون الحجة “ما خلّونا”؟ وهل هناك سلطة مختبئة خلف “ما خلّونا”، ونتساءَل: “لماذا لم يتمّ تشكيل الهيئة الناظمة للكهرباء؟” وأخيرًا غلب التشاؤم على كلام بري، وأقرّ بأن “لبنان ليس بخير، ويمرّ بأسوأ وأخطر مرحلة عرفها في تاريخه”.
في 29 أيلول 2022 عقد مجلس النواب جلسته الأولى لانتخاب رئيس للجمهورية خلفًا للرئيس عون فجاءت النتائج مطابقة للتوقعات، دامت الجلسة قرابة الخمسين دقيقة افتتحها رئيس مجلس النواب نبيه بري بعد أن تأمّن النصاب القانوني 86 نائبًا بحضور 122 نائبًا من أصل 128. أعلن بري نتيجة التصويت كالآتي: 63 ورقة بيضاء، 36 صوتًا لميشال معوّض، 11 لسليم إده، و12 لأسماء مختلفة. وفور إعلان النتيجة بدأ نواب الثنائي الشيعي بالخروج من القاعة ممّا أدّى إلى فقدان النصاب فرفع الرئيس بري الجلسة، وردًا على سؤال عن موعد الجلسة المقبلة صرّح: “إذا لم يكن هناك توافق، وإذا لم نكن 128 صوتًا، لن نتمكن من إنقاذ المجلس النيابي ولا لبنان. وعندما أرى أن هناك توافقًا سوف أدعو فورًا إلى جلسة، وإذا لا فلكل حادث حديث”.
تبيّن من هذه الجلسة النيابية أنه لا يستطيع أي فريق أن يؤمّن النصاب القانوني منفردًا أي 86 نائبًا، كما لا يستطيع أي مرشح تأمين الأكثرية المطلقة أي 65 نائبًا، ويدلّ أول تصويت أن ميشال معوّض لا يمكن أن يتخطى الـ 44 صوتًا، أما النواب الذين صوّتوا لسليم إده فكانوا على علم أنه ليس مرشحًا ويرفض أن يترشّح. وأصبح سلاح تعطيل انعقاد جلسة الانتخابات الرئاسية بيد أكثر من فريق....
مساء يوم الثلثاء 13 تشرين الأول 2022، وفي الذكرى الثانية والثلاثين لهجوم الجيش السوري على القصر الجمهوري سنة 1990 والإطاحة به، تعمّد
ميشال عون أن يوجّه رسالته الأخيرة إلى اللبنانيين أعلن فيها موافقة لبنان على اعتماد الصيغة النهائية التي أعدّها الوسيط الأميركي لترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل وإبلاغه الرئيس الأميركي جو بايدن بموافقة الدولة العبرية.
روى الرئيس عون بالتفصيل المراحل التي قطعها ملف الترسيم البحري وهي “ثمرة مسيرة طويلة بدأت فعليًا في العام 2010 عندما أعدّت وزارة الطاقة والمياه التي كان يتولاها الوزير جبران باسيل مشروع قانون الموارد البترولية في المياه البحرية اللبنانية والذي تمّ إقراره في مجلس النواب في 17 آب 2010”.
بعد هذا السرد، أعلن الرئيس بلهجة الواثق من نفسه: “من حق لبنان أن يعتبر أن ما تحقّق بالأمس هو إنجاز تاريخي، لأننا تمكنّا من استعادة مساحة 860 كيلومترًا مربعًا كانت موضع نزاع ولم يتنازل لبنان عن أي كيلومتر واحد لإسرائيل، كما استحصلنا على كامل حقل قانا من دون أي تعويض يدفع من قبلنا على الرغم من عدم وجود كامل الحقل في مياهنا. وأنهى كلامه بالقول: “أصبح لبنان بلدًا نفطيًا، وما كان روايةً أو حلمًا بات اليوم حقيقة بفعل ثباتنا وتضامننا وتمسكنا بحقوقنا...”.
لم يكتفِ الرئيس عون في 27 تشرين الأول 2022، قبل أربعة أيام من نهاية عهده، بالتوقيع على اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل ومتابعة ما يجري في الناقورة، بل قرّر أن يخّص تلفزيون LBCI في اليوم عينه بمقابلة مطوّلة تناولت تقويمًا شخصيًا لعهده: عون وجهًا لوجه مع عون... وفي ختام مقابلته وجّه الرئيس عون كلمة إلى اللبنانيين فقال: “كنتم معي، وبقيت معكم، وأدعوكم إلى البقاء معي لأنني سأعود بينكم لأناضل من أجل تغيير الوضع”.
كما توجّه بالكلام إلى من لا يؤيدو نه أدعوكم إلى فحص ضمير، إذا كنتم مرتاحين للمنظومة الحاكمة، فلا بأس، وإذا صرتم في حال العوز، ادعمونا لتغيير هذا الوضع الشاذ”. وكانت هذه المقابلة بمثابة كلمة وداع عون كرئيس للجمهورية.