النهار

بذور عنيدة
مشهد من غابة بريشة فان غوخ.
A+   A-
رياض بيدس
 
حبل طرزان
كنت أنا وزوجتي نمشي في الطبيعة، ولطالما ساعدني المشي على الدفع بأتعابي وضيقة أخلاقي وعصبيتي الى قاع الأرض. هههه. أسير لكن الأرض لا تسير معي. أفكر بطرح السؤال على زوجتي وصديقتي: هل نحن الذين نمشي أم أن الأرض هي تمشي بنا؟! لكنني أتردد ولا أسأل. ليس كل ما يسأل عنه يجب أن يجاب عليه. أساسا ليس بالضرورة أن هناك لكل سؤال جوابا!
 
أعود بذاكرتي الى أيام الطفولة البريئة: الى حبل طرزان. كنا نقلّد لعبة حبل طرزان، وأكاد أفقس ضحكا وأنا أتذكر سامر الغشيم الذي قفز ذات مرة على حبل طرزان قفزا فلم يستطع الامساك بالحبل ووقع على ظهره وقعة بنت كلب. لم نصمت احتراما لآلام سامر، بل ما أن أنطلقت أول ضحكة حتى علت القهقهات، فيما كان سامر المسكين يتضوّر ألما ويجعر وهو يحاول الوقوف محني الظهر. سألتني زوجتي التي تستغرب لانطباع شبح بسمة على وجهي: بم تفكر؟ أحاول أن أخفي ما يدور بدخيلتي، لكنها تلح. أخيرا أصدع وأخبرها بما يدور في رأسي، فتنفجر ضاحكة وهي تقول: "كان على الأقل يجب أن تحترموا ألم صديقكم!" وأستطردت قائلا: أحيانا عندما نلتقي مصادفة ينفجر هو قبلنا ضاحكا أو مبتسما. تقول: إذن شفي من الألم ومن الشعور بالخجل. أردد: حقا حقا!
 
لعبة البنانير
كنا صغارا نرتجل ألعابنا إرتجالا. فعدا حبل طرزان وعربيات الرومبيلات وأصطياد العصافير ونصب الفخاخ وجمع أوراق أكياس الأسمنت وتكويرها كطابة، كانت لعبة البنانير شائعة في زمننا. فهناك البنانير الممتازة المصنوعة في مصانع معتبرة، أما البنانير الأخرى فكانت ضربتها تكاد تكسر البنانير الزجاجية المصطفة لأنها كانت تؤخذ من رومبيلات السيارات الحديدية، والاصابة منها كانت تكاد تكسر البنانير الممتازة التي دفع ثمنها ليس بالشيء القليل خاصة للفقراء.
 
لم أنس لعبة البنانير لأنها كانت الى حد ما مرتجلة. لكنها مؤخرا عادت الى ذاكرتي بقوة بعد متابعتي نشرة أخبار في أحدى الفضائيات العربية، وكيف أن مجموعة من الصبيان في غزة، وغصبا عن كل الحرب، كانوا يلعبون البنانير. لم أفرح لأنني كنت ذات مرة ألعب البنانير مثل اولئك الذين يبث التلفزيون عنهم تقريرا. كان الصحافي يسألهم عن لعبهم البنانير في زمن الحرب، وما هو شعورهم، وهل يحبون لعبة البنانير الى هذا الحد، وكانوا يجيبون بعفوية وبشيء من الحزن. تابعت البرنامج بأسى: أولا لأن هؤلاء الصبية يتحدون الحرب ولا يستسلمون للحزن والأسى، كما أنهم أعادوني الى لعبة كنت أحبها ذات مرة ولم أعد أرى صبية يلعبونها في منطقتنا. بين أخبار القتل والإبادة والردم والركام أيقظ هؤلاء الصبية ذكرياتي: يا للقوة والعزم والصلابة! ففي عز دين الحرب يرتجل بعض الصبية من غزة العابا كنا نلعبها نحن أيضا صغارا. فمن الأقوى: هل هم هؤلاء الصبية الذين يحاولون أن يعيشوا حياتهم على نحو شبه طبيعي رغم كل الطائرات التي تغير على كل ما في غزة؟! ولا أملك جوابا!
 
أخبار
الفضائيات تضخ نشرات أخبارية منذ بداية الحرب. تبدو هذه الحرب لانهائية. ورغم كل ما يجري نحن نعيش مع يأس او بدون يأس، اجل نعيش. ولطالما ساعدني اليأس على تجاوز مصاعب حياتية ليست قليلة.
 
ثمة من يتابع الفضائيات العربية باستمرار وحتى بأدق التفاصيل. يتحدثون عن كل تفاصيل ما يرون ويتابعون. وهناك من أصيبوا بحالة تبلّد أو عدم اهتمام. البعض يقول: الحياة يجب أن تستمر. والبعض يؤكد أن الأهتمام بالحياة في ظل ما يجري هو نوع من النضال والمقاومة. وجهة النظر الأخيرة هي التي تعجبني رغم كل الصعوبات والمآسي. الاستمرار في الحياة أو حب الحياة هو نوع من أنواع النضال والمقاومة.
 
أنظر حولي بشيء من الفرح: الطبيعة خضراء وجميلة جدا. والأعشاب الخضراء تنتشر تقريبا في كل مكان. أتأمل بعض الطيور التي تطير محلّقة في السماء في هندسة غريزية. أقول لزوجتي: هل ترين هذه الطيور؟! تقف وتبدو مندهشة جدا:
 
- كما لو أن هذه الطيور ترقض وهي تحلّق؟! أترى الجمال؟!
ثمة شيء صغير أو كبير، لا نعرف، يبعث على الدفء والفرح الإنسانيين رغم كل وحشية الحرب. ونمكث واقفين لكي نتابع سرب الطيور المبتعد!
 
(15 شباط 2024)

اقرأ في النهار Premium