وَسط هذه اللوحة الزهريّة الصامتة، تُطلِق الراقصة إحدى يدَيها نحو الحياة، وترسم بجسدها المتمايل مسارَ عبور من العصور القديمة إلى الزمن الحاضر وتطوّره. كيف ذلك؟!
هذه هي "الإلهة حتحور"، التي عُرفِت في حقبة مصر القديمة بأنّها ترمز إلى الحبّ والموسيقى والحسّية، وتستقبل الموتى في العالم السفليّ وترحّب بهم. لقد جسّدها الفنان المصري عمر حسين براقصة بفضل خياله المبدع، وجمعه بين الفنون التقليديّة والرقميّة.
عَمِل حسين لأكثر من عام متواصل على إنتاج سلسلة "الآلهة الجديدة"، التي يُعبّر من خلالها عن حياة آلهة مصر وأسلوب عيشها لو تخيّلناها في العام 2023، مروراً بكلّ التغيُّرات التي شهدتها مصر والمنطقة.
يكشف حسين لـ"النهار" عن أنّ الراقصة المرسومة في اللوحة ليست إلّا الراقصة المصريّة سامية جمال التي تنتمي إلى العصر الذهبيّ، باعتبار أنّ "العلاقة بين الحبّ والجمال والموسيقى مرتبطة بالرقص الشرقيّ".
ومن بين رسومات أخرى، جذبت هذه اللوحة الجمهور بشكل لافت، واستدعت تناقضاً في الآراء، إيجاباً وسلباً، بشأن نظرة الفرد إلى معانيها، إذ يقول حسين: "ثمة مَن يعتبر اللوحة تقليلاً من شأن الإلهة بتجسيدها كراقصة، ورأي آخر يذهب الى أنّني قد رفعتها شأناً وعظمة. التعامل مع اللوحة كالتحديق في المرآة، تنعكس في لحظات أمامها أحاسيس المُشاهِد ومشاعره وأفكاره".
أمّا فكرة السلسلة، فقد انبثقت - وفق حسين - من أسباب عديدة، أوّلها "الإحباط الذي وُلِد لديّ مع استمرار تقديم الآلهة بالأسلوب ذاته منذ ما يقرب الـ4 آلاف سنة، فكان هدفي إعادة عرضها بأسلوب متطوّر، وطرح تساؤل حول كيفيّة تخيُّل وجودها اليوم في ظلّ القِيم والمعاني الجديدة التي نشهدها".
مَن ينظر إلى اللوحات التسع المعلّقة في إحدى زوايا معرض "آرت دبي" بمدينة الجميرة، سيظنّ للوهلة الأولى أنّها رسومات زيتيّة الألوان، في حين أنّها نتاج عمل يجمع بين الفنون التقليدية والرقميّة بوساطة الذكاء الاصطناعيّ، وتأتي كجزء من أعمال "ديجيتاليّة" أخرى تقدّمها مجموعة فنانين من مصر في غاليري "وزارة".
وبالرغم من إنتاج اللوحات بتداخل تكنولوجي - تقليدي، فإنّ الإطار الخشبيّ ظلّ سِمةً للعمل الذي واظب على عرضه حسين، لا لجذب الجمهور البعيد من التكنولوجيا فحسب، بل لـ"أهمية الإحساس بالموادّ الطبيعيّة" بالنسبة إلى الفنان، وفق توصيفه؛ ويضيف: "تُنتَج النسخة الأخيرة من اللوحات بنسبة 70 في المئة بوساطة تقنية الديجيتال، والباقي مشغول باليد ماديّاً، مِمّا يوقع الجمهور في حيرة حول حقيقة اللوحة، وهذا هو أحد أهدافي".
وبعد عرضه لوحة في الـNTF سابقاً، ومشاركته في 3 معارض فنيّة، يؤكّد حسين "النيّة لتطوير فنوني رقميّاً، واسترجاع بعضها من الماضي إلى الحاضر ولاحقاً إلى المستقبل؛ ومن الضروري أن يبقى الديجيتال جزءاً منها".
فنون "الديجيتال" في غاليري "وزارة"
سَنحت فرصة تطوير "آرت دبي ديجيتال" لِرؤية العمل هذا العام، بعد تجربة أولى سابقة، بانضمام غاليري "وزارة" للفاعلية، مع وجود أرضٍ خصبة لعرض الأعمال المُنتَجة من الذكاء الاصطناعي. وقد سُجِّل إقبالاً صحافيّاً لافتاً على الأعمال الرقميّة، المتحرّكة والمطبوعة، في المعرض.
يعمل الفنّان المصريّ أحمد الشاعر في الفنون الرقميّة منذ 20 عاماً من خلال اتجاهات مختلفة، بدءاً من ألعاب الفيديو كوسيط إعلاميّ، إلى تصميم فنون متّصلة بهذه الألعاب، قبل أن يتّجه بالتدريج نحو أنواع مختلفة من التكنولوجيا، وصولاً إلى الذكاء الاصطناعي.
يُقدّم الشاعر اليوم عملاً بعنوان "جنّة الذكاء الاصطناعي"، عبر توجيهه أسئلة إلى برنامج ذكيّ عن كيفيّة تخيُّل الآلة للجنّة أو النّار أو لمفاهيم من الغيبيات، ثم بدأت الآلة بعدها بإنتاج الصور وتحويلها إلى "أنيمايشين" وأفلام مصوّرة قصيرة.
ما تراه العين في العروض المتحرّكة يحمل في ثناياه تفاصيل غامضة. كلما دقّقنا في العمل سنسأل ما إذا كانت هذه الرسوم تُعبّر عن حديقة أم تمثال أم ملاك!
من جهته، يعتبر المدير الفنّي لغاليري "وزارة" أدهم حافظ أنّ "رسومات الفنان أحمد الشاعر تبيّن إبداعه وعلاقته الوطيدة بالبرمجيّات؛ فالعين تنجذب إلى العمل من دون قدرتها على تحديد طبيعته وحقيقته".
النتائج المبهرة لتجربة الجمع بين الفنون التقليدية والرقمية ودخول عالم "الديجيتال" دفع فنَّاني "وزارة" إلى التوسّع بمشاركاتهم العربية والعالمية في الفعاليات الفنيّة، إذ يتطلّع الفريق الآن إلى "مهرجان نيويورك العربي"، الذي سيقام في نيسان المقبل.
يؤكد حافظ لـ"النهار" أنّ هذا المهرجان يهدف لـ"التركيز على الأعمال الفنية العربية، من الفنون البصرية إلى الرقص المعاصر، المسرح، الموسيقى، الشعر وعروض الأزياء، وذلك بالشراكة مع مؤسّسات عدّة في نيويورك".
يأتي الأمر بعد شراكة بين "وزارة" و"الهيئة الملكية في مدينة العلا السعودية" لإعداد مشروعين فنّيَين، الأول عن تاريخ الفنّ في الأماكن العامّة، والآخر عن تاريخ "طريق البخور"، تأكيداً على نجاح الفنّانين في عملهم بين الفن الرقمي وفنون الأداء، وحصدهم أصداء قيّمة.