محمد أدهم السيد
استضافت قاعة أفريقيا مؤخراً أمسية موسيقية استثنائية أحيتها أوركسترا بيت العود، الفرقة الموسيقية السودانية الشهيرة التي تعبر عن التراث الموسيقي الرائع للسودان والوطن العربي، وأقيمت في قاعة أفريقيا في الشارقة كجزء من فعاليات ورشة العمل حول مشروع متاحف غرب السودان المجتمعية التي نظمها المكتب الإقليمي لحفظ التراث الثقافي في الوطن العربي (إيكروم – الشارقة) بالتعاون مع الهيئة العامة للآثار والمتاحف السودانية ومعهد إفريقيا بالشارقة تحت رعاية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة.
وبدأت هذه الأمسية الفنية، التي أقيمت برعاية مجموعة دال (Dal) بحضور الشيخة حور بنت سلطان القاسمي رئيس معهد أفريقيا في الشارقة، بكلمات ترحيبية ألقاها الدكتور صلاح محمد حسن، مدير معهد أفريقيا، والدكتور زكي أصلان، مدير المكتب الإقليمي لحفظ التراث الثقافي في الوطن العربي (إيكروم- الشارقة)، والدكتورة غالية جار النبي، المدير العام للهيئة العامة للآثار والمتاحف السودانية.
بعد ذلك كرمت الهيئة العامة للآثار والمتاحف في السودان الدكتور زكي أصلان، مدير المكتب الإقليمي لحفظ التراث الثقافي في الوطن العربي (إيكروم- الشارقة)، حيث عبرت الدكتورة غالية جار النبي عن تقدير السودان لجهوده التي بذلها على مدى السنوات الماضية والمساهمات التي قدمها للتراث في العالم العربي ولدعم وإنجاح مشروع المتاحف المجتمعية في غرب السودان. كما قدمت دكتورة غالية جار النبي شهادتي شكر وعرفان للمعهد الافريقي في الشارقة ومجموعة دال (بيت العود) لما قدماه ايضا من دعم في انجاح هذه الورشة، استلماهما كل من الدكتور صلاح حسن والسيد ايهاب داود، المدير التنفيذي لمجموعة دال.
وبعد الفقرة الافتتاحية، بدأت الحفلة الموسيقية لتتضمن مجموعة مختارة من المقطوعات والأعمال الموسيقية الرائعة التي عزفتها أوركسترا بيت العود السودانية بقيادة العازف أحمد شمه وإشراف الدكتور نصير شمه، والتي تعكس التراث الموسيقي الأصيل للسودان والمنطقة العربية، وتعمل على الترويج للموسيقى والتراث الأفريقي، كما تحتفي بثقافة وموسيقى "العود" الذي يعتبر من أقدم الآلات الموسيقية العربية.
(عازف صغير بالعمر من أوركسترا بيت العود السوداني)
ولعل أجمل ما حملته هذه الحفلة لروادها الذين ملأوا مدرجات قاعة أفريقيا هي تلك الأجواء المبهجة والروح الفنية الإبداعية التي عكسها العازفون على مختلف أعمارهم ومشاركاتهم، سواء من خلال العزف الجماعي أو المنفرد، وكذلك من خلال تقديم بعض المقطوعات الموسيقية التراثية بروح فنية جديدة، والدمج بين الموسيقى الغربية الكلاسيكية والموسيقى التراثية السودانية باستخدام الات موسيقية خاصة، كما تجلى ذلك في مقطوعة "المارش التركي"، وهي واحدة من أشهر الألحان الموسيقية الكلاسيكية للموسيقار النمساوي أماديوس موزارت، وقامت الفرقة بأدائها بطريقة استثنائية وخلاقة ومبهجة من خلال توظيف الآلات الشعبية والمفردات الموسيقية الخاصة بالسودان ودمجها مع اللحن الأصلي، وخاصة الة "الوازا" وهي، كما يقول أحمد شمه، من الآلات الموسيقية التي يتفاءل بها الفلاحين أثناء الحصاد، ويرون أن ألحانها الموسيقية تجلب الكثير من البشرى والخير لمحاصيلهم.
كما عزفت الأوركسترا برفقة عازف العود أحمد شمه مقطوعة موسيقية حملت بين نغماتها الكثير من البهجة والفرح بعنوان "أحب مكان"، وهي من كلمات سيف الدين الدسوقي وألحان برعي محمد دفع الله. والأمر نفسه تكرر في المقطوعة الموسيقية الرائعة الني عزفتها الأوركسترا بعنوان "الطريق إلى شقلاوة"، من تأليف نصير شمه، وتضمنت عدة سولويات على القانون والعود وعدد من الآلات الإيقاعية، إلى جانب بعض الرقصات السودانية من التراث السوداني، وعزفا جماعيا ملفتا حمل الحضور جميعا نحو السودان، كما وعد بذلك العازف أحمد شمه عندما قال في مقدمة مقطوعته "سوف نمشي مع بعضنا البعض في هذا الطريق حتى نصل إلى السودان".
وعزفت الفرقة مقطوعة "نهر الجور" لأيقونة العود الموسيقار السوداني الراحل بشير عباس، والتي حملت الكثير من المفردات الموسيقية العذبة، وقدمت جانباً من التراث الموسيقي السوداني الأصيل. بينما انتقل الحضور في مقطوعة "في محراب عثمان حسين" للمطرب والموسيقي عثمان حسين إلى عالم آخر مختلف من الموسيقى والنغمات الموسيقية التراثية في حوار وتناغم جميل بين الآلات الوترية والإيقاعية. وفي مقطوعة "أنا كل ماقول التوبة" للموسيقار بليغ حمدي والمطرب الراحل عبد الحليم حافظ، قدمت الفرقة هذه المقطوعة الموسيقية بلغة جديدة مختلفة وايقاع جميل جمع بين اللحن الأصلي والتراث السوداني الأصيل. أما مقطوعات "حلاة بلدي" للفنان زكي عبد الكريم، و"نوبة" للأستاذ نصير شمه، وعدة مقطوعات بعنوان "تراثيات من غرب السودان" فلم تبتعد عن هذ الجو الجميل، ونجحت في أن تنشر المزيد من المتعة والطرب وأن تستأثر بمتابعة الحضور، على اختلاف اهتماماتهم وذائقتهم الموسيقية.
وتواصلت المقطوعات الموسيقية تباعا لمدة ساعة ونصف تقريباً، والتي عكست جميعا الموهبة التي يمتلكها العازفون على اختلاف أعمارهم، كباراً وصغاراً، حيث يمكن القول إن هذه الأوركسترا قد نجحت بشكل منقطع النظير بالجمع بين مواهب موسيقية شابة، بل وحتى صغيرة السن مثل الطفلة الصغيرة الرائعة "أمنية" التي أبدعت في العزف على العود، إلى جانب موسيقيين متمرسين وموهوبين ممن اكتسبوا معرفة متخصّصة بعدد لا يحصى من الأنواع الموسيقية. كما تضمنت الحفلة مجموعة أخرى مختارة من المقطوعات والأعمال الموسيقية الخاصة التي كانت تهدف إلى إثراء الفكر الفنّي وتعزيز حضور الموسيقى الأفريقية في العالم.
(أمنية، أصغر عازفة في أوركسترا بيت العود السودانية)
ويعتبر مشروع "بيت العود" أحد أهم المشاريع الثّقافية الرّائدة في العالم العربي، وقد تأسّس في عام 2008، بهدف نشر الوعي حول ثقافة وموسيقى آلة العود، التي تعتبر من أقدم الآلات الموسيقية العربية. وإلى جانب الخرطوم يتواجد "بيت العود" اليوم في كال من القاهرة وأبو ظبي وبغداد والإسكندرية. كما يقوم "بيت العود" بتدريس تقنيات العزف على مختلف أساليب "العود"، وتسهيل التّعامل مع مختلف المدارس المعروفة، وذلك لاكتشاف جيل جديد من الموسيقيين المحترفين، وتأهيلهم إلى مستوى عالٍ من التّخصّص.
وكانت الخرطوم قد انضمت إلى قائمة المدن العربية التي تستضيف "بيت العود" في كانون الثاني / يناير 2020، برعاية مجموعة دال، وبإشراف الموسيقار العالمي نصير شّمه، مؤسّس "بيت العود". بينما تأسّست أوركسترا "بيت العود" في الخرطوم في أغسطس 2021، وتضم طلاب وموسيقيين من جميع أنحاء السُّودان، تحت إشراف الدّكتور نصير شّمه وبقيادة السّيد أحمد شّمه. إلى جانب تدريب الموسيقيين السُّودانيين، يبدع منتسبو "بيت العود" السُّودانيين أيضًا في انتاج مؤلّفات موسيقية أصلية، تعزف على المسارح الدّولية. ويمكن القول في النهاية إن أوركسترا بيت العود بالخرطوم استطاعت بفخر أن تبعث من جديد العديد من المقطوعات الموسيقية السُّودانية التي تنفرد بنغماتها الإيقاعية المختلفة، وذلك بالإضافة إلى الكثير من المقطوعات العربية والعالمية الأخرى.
(تكريم الدكتور صلاح)