النهار

بعلبك تودّع تمّوزها الصاخب مع إيماني: امتداد لتقلّبات النفس وأغنيات غير مريحة
شربل بكاسيني
المصدر: بعلبك - "النهار"
بعلبك تودّع تمّوزها الصاخب مع إيماني: امتداد لتقلّبات النفس وأغنيات غير مريحة
المغنّية الفرنسية إيماني وفرقتها على أدراج بعلبك ضمن عرض "Voodoo Cello" (وائل حمزة).
A+   A-
في الليلة الأخيرة من ليالي مهرجان بعلبك، حلّت إيماني. مزّقت موسيقاها خشوع المعابد وصمت الأعمدة. موسيقى متوجّعة، ثائرة، حيّة، وليدة الزلّات والخيبات والمشاعر التي تطبع سيرة الإنسان وسيرورته.
 
جاءت إيماني إلى بعلبك لتُكمل ما بدأ مع إيلا فيتزجيرالد (1971 - 1972) وجون بيز (1974) وغيرهما، وإن اختلفت الأنواع والمدارس. الليل شبه رطب، وهواء القلعة مشوب بعطور مختلطة. تطيب للمرء "السلطنة" على نغمات إيماني بالحلو والمرّ منها، بل لا بأس في التمايل حدّ الرقص والقفز. وجدت في القلعة ملعباً لأوتارها، وصدًى لصوتها الهادر، المتهدّج والأفقيّ. غنّت قديماً وجديداً، أغاني خاصّة، وأخرى مقتبسة؛ قلْ مستعارة!
 
(وائل حمزة)
 
تَعرف إيماني - واسمها يُعادل "الإيمان" في اللغة السواحليّة - كيف تتعامل مع مشاعرها الفائرة وصوتها التصاعديّ. في حالة أشبه بالانخطاف، غنّت فأطربت. عيناها قالتا الكثير؛ في نظراتها تجلّت روحها، حيّة وشغوفة بمعاني الإنسانية. تلك الموسيقى السمراء الحنجرة، الخصبة الصور، الضخمة المعاني، تليق بالقلاع وتُشبه تاريخها.
 
تعرف بعلبك أيّ آلهة تُكرّم؛ تاريخها يحكي ويشهد.  سمراء، قدُّها أهيف، أطلقت ذراعيها في الفضاء تُحرّك الجماد، وتبعث في الأعمدة الخرساء حياةً قلقةً.
 
وحدها إيماني، ومَن حيكت حنجرته من القماشة المستفزّة، الغنيّة بتنوّعها، الطليقة الحركة، يعرف كيف يتعامل مع فضاء أنيق كالمعابد؛ تصدح وتُنغّم كما في الأناشيد المقدّسة. "الريبيرتوار" الغنيّ امتداد طبيعيّ لما عاشه ويعيشه الإنسان؛ تستهلّه مع بوب مارلي و"غابته" التي هجرتها الشمس، وتُنهيه بتحيّة لمادونا واسمها "الأشبه بصلاة"، مروراً بالأغنية "الهيت" التي أطلقت إيماني نحو العالمية "لن تعلم أبداً".
 
(وائل حمزة)
 
تلك الأغنية ألهبت المسرح بحقّ. تحكي قصّة فتاة مُكبّلة بالخوف من السعادة العارمة. لن تبوح بما يُخالج نفسها تجاه الفتى الذي تُحبّ. تراه يرحل، يبتعد متمّماً ما أرادت، لأنّ مطاردة أشباح حياة هانئة معه أسهل بالنسبة إليها من المجازفة في عيشها. في كآبتها المريحة، ستُغنّي له أغنية لن يسمعها أبداً، ولن يعلم بها أبداً.
 
 تروي إيماني بأغنياتها حكاية تصادم بينها وبين محطّات حياتية وأحداث يوميّة؛ هكذا تولد "الأغنية الإيمانيّة"، حرّة من التكلّف، تُشبه العيش في المزارع النائية، وبدايات قصص الحبّ الطائشة، والنهايات التي تُسطّر الدروس والعَبَرات وتترك توقيعها الفجّ. إنّها الأغنية الناضجة نضوج تفاحة حواء، الليّنة تارة، والقاسية طوراً، لتتماهى مع الواقع؛ الأغنية غير المريحة بواقعيّتها ومعانيها الحقيقيّة.
 
(وائل حمزة)
 
إيماني متقلّبة، غريبة عن الملل والتكرار. تغنّي الإيقاعات المتضاربة بشيءٍ من الفصام الحلو الذي يتعدّى الحدود والقوالب. متقلّبة، هادئة كنسمة ناعمةٍ بعد حرب. جاءت إلى بعلبك بموسيقى "فيرساتيل" وإيقاع رعويّ يجمع الباحثين عن أغنية لا تجمّل الواقع بالزّيف، ولا تحمّل القلب عناءً.
 
في مقدّمة برنامج بعلبك 1974، على مسافة موسم من الحرب والضرب، كتبت رئيسة لجنة المهرجانات آنذاك مي عريضة، "لقد كنّا الرائدين في فتح آسيا الغرب على فنون العالم المعاصر مسرحاً ورقصاً"... نستعير منها هذه الجملة لنصف بعلبك في ليلتها الأخيرة. اختتمت تموزاً عالميّاً بدأته بسينوغرافيا تتغنّى بجسد الإنسان، وأنهته بتموّجات حنجرة مفتوحة على أفراحه ومآسيه.
 

اقرأ في النهار Premium