وجدنا أنفسنا في حرم الجامعة الأميركية ببيروت مشاركين من دون وعي في عمل مسرحيّ شهير. لقد كسرت هذه المسرحية العزلة التي فرضتها أحداث غزّة المأسوية على ما عداها من أعمال ثقافية هادفة، وذلك من خلال استعمال المخرج لوسيان بو رجيلي عبارة لافتة هي: "عدوّ الشعب". بو رجيلي الذي اعتاد تقديم مسرحيات تحاكي صوت الشعب والواقع المزريّ للزمن الذي نعيشه، رأى هذه المرّة أن تكون مسرحيّته مقتبسة من مسرحية "عدوّ الشعب" للنرويجي هنريك إبسن ألّفها عام 1882، وبات مضمونه إلى اليوم مرجعاً للصوت المنتفض على الفاسدين والرأسماليين الذين يبيعون شعوبهم مواقف كاذبة ويُسكتون بالقوّة صوت الحق والحقيقة. ترجمت ندى صعب النص إلى العربية وأعدّه بو رجيلي للمسرح، أما المشاركون فيه فهم: زياد نجّار، منتجة العمل فرح شاعر، عبدالرحيم العوجي، هشام خدّاج، إضافة إلى فريق بو رجيلي من طلاب الجامعة الأميركية ببيروت.
تصوير: حسام شبارو
على مدى ساعتين، غابت خشبة المسرح التقليدية وحلّت مكانها أماكن واقعية في حرم الجامعة، تنقّل فيها الحاضرون من موقع إلى آخر ليتفاعلوا عن قرب مع أحداث قصّة حصلت في بلدة نرويجية صغيرة. لا تغيير في الأسماء الحقيقية للأبطال ولا حتى في لباسهم وأسلوب حياتهم، بل في جوهر الرسالة التي أفلح صنّاع العمل في لبننتها لتتماشى مع الواقع اللبناني من خلال الإضاءة على قضايا متعلّقة بالبيئة وصحّة المواطن وصولاً إلى فساد السلطة التي تطبخ المشاريع المشبوهة مع رجال أعمال، إضافة إلى عنصر محزن يتمثّل بتخلّي الإعلام عن الكلمة الحرّة في دعم القضايا المحقّة.
اختار إبسن ضيعة سمّاها "كريستن"، يدخلها السائح بترحاب من أهلها الذين يقدّمون له أباريق زجاجية ملأى بمياه من ينابيعهم العجائبية، من دون أن يدرك السائح بعد دفء الاستقبال أنّه وقع في ورطة! هذا الاستقبال الأفلاطوني ما يلبث أن يزول زخمه بعد التوجّه إلى منزل الدكتور توماس ستوكمان، المستشار الطبّي لينابيع "كريستن" وسماعه يقرأ تقريراً طبياً يؤكّد له صحّة شكوكه: "المياه العجائبية ملوّثة بعدما تسرّبت بكتيريا إلى داخل الأقنية فأفسدت مياه محطة الحمّامات المعدنية الاستشفائية" التي أسّسها توماس مع شقيقه بيتر، رئيس مجلس إدارة الينابيع وأحد النافذين في البلدة. ويتبيّن أنّ سبب هذه الكارثة الصحيّة سدّ أقيم في خراج الضيعة بناه الأخير، إضافة إلى سموم مصنع الجلود الذي يملكه والد كاثرين، زوجة توماس.
تصوير: حسام شبارو
وما يلبث منزل الطبيب توماس أن يتحوّل ساحة مفصليّة جاهزة لاطلاق شرارة "الثورة" بعدما حظيَ اكتشافه بدعم "موعود" من أطراف مناصِرة لعدالة الإنسان أمام إعلان بيتر الحرب على أخيه لرفضه طمس الحقيقة، محمّلاً إياه مسؤولية تدمير الموسم السياحي للضيعة كرمى "مستجد صحّي يمكن معالجته من خلال بعض التدابير الصحية الطفيفة"، على حد تعبيره، شارحاً أن من يصدر عنه هذا النوع من الشائعات يعتبر خائناً. لا بل أكثر من ذلك، فرجل النفوذ بيتر رأى أنّ الشعارات الهاتفة باسم العدالة والثورة والحرية ساهمت في تدمير شعوب برمّتها.
يبقى الطبيب مصرّاً على مطلبه بضرورة إعادة بناء شبكة المياه والأقنية: "نقدّم لضيوفنا التسمم المستدام، تسمّماً داخلياً وخارجياً... جريمة موصوفة ضد الناس". هدير الثورة المؤازر لصوت الطبيب الثائر ما يلبث أن يخفت أمام صوت الديكتاتور بيتر الذي يوهم الداعمين بأن الإصلاحات التي ينادي بها شقيقه ستكلّف أهل الضيعة أثماناً وضرائب جديدة، ليتّضح أنّ جميع الأصوات الحماسية لم تكن سوى فقاعات هواء لا جدوى فعلياً منها، لا سيّما قرار الصحيفة التي باعت قسَمَها الشريف كرمى لحماية نظام توماس.
تصوير: حسام شبارو
يبقى الطبيب وحيداً في معركته ومعه زوجته وابنته وصديقه الكابتن بعدما أفلح بيتر في منعه من النطق بما لديه من حقائق وجيّش مواطني البلدة ضدّه، فصدر حكمهم بتتويج الأخير "عدوّاً للشعب" ونبذه خارج البلدة. يصل الطبيب إلى خلاصة تقول: "نقاتل لأجل الحقيقة، ولهذا السبب نحن وحدنا، والأقوياء سيعتادون البقاء وحيدين لأنّ الحقيقة آتية. نريد أن نبني جيلاً جديداً ليس فيه مرتكبو جرائم ومنتسبو أحزاب".
تصوير: حسام شبارو
يتشارك بو رجيلي مع إبسن الفكر والصوت، فكلاهما استُخدم معهما مقصّ الرقابة في أعمالهما الفنية ومورست ضدهما محاولات قاسية لإسكات الصوت. ولعلّ المناظرة الأخيرة بين الأخوين توماس وبيتر تعيدنا إلى مشهدية ثورة 17 تشرين التي انتهت بانتصار السلطة وإخماد شرارات التغيير. هي تناقضات الديموقراطية التي يتبناها أصحاب المصالح متناسين المصلحة العامة للمواطن، في مقابل النَّفَس الثوري الذي رغم خسارته فإنه لا يستسلم، بل تؤازره مقولة الصحافي الشهيد جبران تويني في العام 1989: "لا أحد سيُسكت صوتنا، صوتنا هو صوت الشعب، صوت المنتفض، صوت الفاضح، صوت الحق والحقيقة".
يُذكر أنه تمّ تمديد العرض المسرحي أياماً إضافية، الثامنة من مساء الثلثاء، الأربعاء، السبت والأحد في حرم الجامعة.