إنّها مدينة جميرا، ونسمة الشتاء الباردة عند الغسق "بِتْرِدّ الروح". هنا، في هذه البقعة من العالم، كلّ شيء ينطق بالعجب.
أمام عمل فنّي رقميّ تفاعليّ يتكبّد حائطاً في جناح الفن الرقمي من "آرت دبي"، تقف شابّة يابانيّة مفتونة بالتكنولوجيا الحديثة. تحرّك يديها وتطلق ذراعيها في الهواء، فتتحرّك أقراص معدنيّة دائرية متراصّة داخل إطار اللوحة، لترسم ظلّاً تفاعليّاً لحركات الشابة وأصغر إيماءاتها.
في صالة أخرى جدرانها حمراء داكنة بلون الفخامة والسموّ، يقف صبيّ مع والدته أمام نسخة رقمية للوحة "إليانور توليدو وابنها جيوفانى دي ميديشي"، والتي رسمها الإيطالي برونزينو بين العامَين 1545 و1546. يبتسم الصبيّ فيما تداعب والدته شعره، وينظر الاثنان إلى اللوحة بصمت.
"أغنية الدمار" لألفريد طرزي (2024- Galerie Krinzinger)
وعلى بعد أمتار، يقف ثلاثة شبّان أمام عمل فنّي مميّز لألفريد طرزي. "أجمل امرأة في العالم"، يقرأ أحدهم عبارة مكتوبة بالإنكليزية على صورة "ڤينتاج" لوجه جورجينا رزق، "هي فعلاً أجمل امرأة"، يجيب صديقه، وتردّد القاعة صدى همسات تتناقل قصصاً عن ملكة الجمال الآتية من بيروت لتجتاح الكون ببهائها، وعن "الأمير الأحمر" علي حسن سلامة الذي تقابل صورته صورة "أجمل امرأة في العالم"، قبل أن يحرّك أحدهم مقبض "مانيڤيل" دائريًّا تهتزّ له الصورتان وينطلق الزائرون في رحلة مع الذاكرة الاجتماعية - السياسية الإقليمية.
***
دبي والاقتصاد إبداعي
"نشهد مرحلة مثيرة في السرد الثقافي لمدينة دبي". تتمسّك المديرة التنفيذية في معرض "آرت دبي" بينيديتا غيون بهذه الجملة التي وصفت بها الحدث للزائرين، وتعيد تكرارها في حديثها لـ"النهار". تتكلّم على فكرة "الاقتصاد الإبداعي ونموّه"، الاستراتيجية الطموحة التي تهدف إلى تحويل دبي وجهة مفضلة للمبدعين من كلّ أنحاء العالم. التوقّعات بحجم الأمل والعمل، والهمّة همّة إمارة وقيّمين وفنّانين مبدعين.
وجه داليدا لنينا شايلدرس (2023 - Art Concept)
تشارك في الدورة السابعة عشرة (1 آذار - 3 آذار) أكثر من 120 صالة عرض معاصرة وحديثة ورقمية، يفوق عدد الآتي منها من الجنوب العالمي 65 في المئة. وبين الرسم والنحت والكولاج (التلزيق) والفن الرقميّ وسواه، يحتضن "آرت دبي" أعمالاً من أكثر من 60 مدينة وأكثر من 40 دولة. أذواق مختلفة، وجهات نظر متباينة، ومدارس متناقضة، جميعها حجزت ركناً لها في المعرض ووجدت جمهورها.
واحة ثقافة في قلب العالم
ما يسترعي الاهتمام في هذه النسخة من "آرت دبي"، هو رفع أعمال كبار الفنانين وصالات العرض من الجنوب العالمي إلى دائرة الضوء، وتوفير منصة لفنون المناطق والمجتمعات التي غالباً ما تعاني تمثيلاً غير كامل وغير منصف. وفي المقلب الآخر، معرض "آرت دبي ديجيتال" القسم الوحيد في أيّ معرض فني دولي ضخم مخصّص للوسائط الجديدة والفن الرقمي.
منحوتة من دون عنوان لريناتا ساديمبا (2023 - Perve Galeria)
وتحت عنوان "هذا العالم الآخر"، يسلّط معرض "آرت دبي الحديث" الضوء على الديناميكيات التي شكّلت الجنوب العالمي المعاصر؛ ويتناول التبادلات الثقافية الواسعة بين الاتحاد السوفياتي والدول العربية والأفريقية وجنوب آسيا التي حدثت بعد الحرب العالمية الثانية، ويكشف عن التجارب المشتركة للفنانين من مناطق قد تبدو بعيدة مثل أوغندا وسوريا والسعودية وسريلانكا الذين دعيوا للدراسة في العواصم السوفياتية مثل طشقند وكييف وألماآتا وموسكو.
جزء من سلسلة لعبد الستار موسى (1986 - Hafez Gallery)
أمّا قسم "البوابة" فيضمّ عشرة عروض فردية لأعمال فنية جديدة. هنا يستكشف الزائر مفهوم "التعافي"، ويلتقي فنّانين من أميركا اللاتينية والشرق الأوسط وجنوب آسيا. وينخرط كلّ فنان في ممارسات فنية اجتماعية، ما يوفر سبلاً للتأمل أثناء التعمق في أفكار المجتمع والانتماء والقوة التحويلية للفن. وللتوسّع في هذا الموضوع، يتضمن برنامج "آرت دبي" لهذا العام سلسلة من العروض والمداخلات الجديدة التي ستقام طوال فترة المعرض.
بين الذكاء الاصطناعي والفن التقليدي
تلتقي "النهار" على هامش "آرت دبي"، المستشارة المتخصّصة بشؤون الفن والثقافة في المعرض هالة خياط. نسألها عن الحضور المكثّف لمظاهر التكنولوجيا الحديثة ولفنّ هو وليد الذكاء الاصطناعي، ونطرح عليها سؤالاً عن تخوّف تقليديّين على مستقبل الفن وسط ثوران التقنيات الحديثة.
نشيد راهب "الكوانتوم" لفلورينسيا بروك (2024 - Immaterika)
توسّل الفنانون على مرّ العصور مواد مختلفة لتجسيد هواجسهم وأفكارهم ورسم ملامح مجتمعاتهم وانتماءاتهم الأوّلية. من القماش والحديد والجصّ، والأصباغ الزيتية والمائية والباستيل، وغيرها. "أمّا اليوم، فقد أُدخلت التقنيات الرقمية في عالم الفن، كغيرها من الوسائل، لا للتضييق على الفنان"، تقول خياط لـ"النهار"، "وأعتقد أنّ من يريد أن يحدّ نفسه ينحدّ وينحصر إبداعه، ومن يعتقد أنّ ثمّة آلة قادرة على حدّ إبداعه فهو في الضرورة محدود".
على صعيد آخر، ترى خياط أنّ "دبي هي مركز جغرافي مهم في الخليج وفي وسط العالم، ونقطة أساسية على طريق الحرير الجديد". وتشير في حديثها إلى نموّ سوق الفن في دبي، على رغم أنّ المشاركة العربية في "آرت دبي" محدودة نسبياً، إذ ينعكس عليها عدم الاستقرار في المال والاقتصاد في دول عربية عدّة تعاني أزمات متوسطة وحادّة. وتشرح خياط أنّ مشاركة أيّ صالة عرض منوطة بعاملَيْن: وضع برنامج ثقافي جدّيّ ورفعه، والقدرة المادية للسفر والمشاركة ودفع بعض التكاليف.
الحليب لسامويل كاكايري (1997 - Afriart Gallery)
تركّز النسخة الحالية من "آرت دبي" على الأصوات الفنّية المتنوّعة، القادمة من بلدان وثقافات عدّة. ويُعدّ المعرض نقطة التقاء للمجتمعات الإبداعية، وواحة ثقافة في قلب العالم هي الأكبر من أيّ معرض فنّي عالمي.
ويتناول "منتدى الفن العالمي" العلاقة بين الظواهر الجوية العنيفة والتغيّر المناخي الحاد، والنسخة الثانية من مؤتمر دبي للأعمال الفنية، المنصة الرائدة لمناقشة التحديات الرئيسية التي تواجه سوق الفن العالمي وأول قمة رقمية في معرض "آرت دبي" التي تجمع خبراء من مجموعة من التخصصات لدراسة نمو وفرص اقتصاد الفن الرقمي في دبي.