يوم غابت العينان الثاقبتان والحاجبان الكثيفان عن لوحات فريدا كالو، وغاب معهما تاج الأزهار المتفتّحة، حضرت السياسة. لوحة "ثوبي مُعلّق هناك" نموذجٌ لانصهار البُعد السياسيّ بالفنّ في أعمال "فريدوتشا"، وَفق ما كان يحلو للمقرّبين مناداتها، وواحدةٌ من أكثر لوحاتها المشحونة بتيّار سياسي عالٍ بتصويرها انتقاداً لاذعاً للرأسماليّة الأميركيّة وثقافة الاستهلاك. غاب وجه الرسّامة، وحضر ثوبها نقطةً محوريّةً، فارغاً ومنعزلاً، يتوسّط فوضى أميركيّة في الخلفيّة.
ليست ذات الشاربين الخفيفَيْن والحاجبَيْن الموصولَيْن واحدةً من أعلام الفنّ المكسيكي فحسب، بل ثوريّة في أسلوبها الفنّي ومعتقداتها السياسيّة، وقد سخّرت أعمالها توثيقاً لنضالات الطبقة العاملة، وخدمةً لمفاهيم، رأت فيها سموّاً، على رأسها العدالة الاجتماعيّة والقوميّة؛ هي التي أرادت أن يربط الناس تلقائيّاً بينها وبين الثورة المكسيكيّة، فكانت تقول -في أغلب الأحيان- إنّها ولدت في العام 1910 (سنة اشتعال الثورة) أي بعد ثلاث سنوات من تاريخ ميلادها الحقيقيّ.
كانت الثورة المكسيكيّة (1910-1920) فترة مفصليّة في تاريخ المكسيك، وعاصفة تغييرات اجتماعيّة وسياسيّة عميقة. في سياق التحوّلات التي شهدها العقد، تطوّرت معتقدات فريدا كالو السياسيّة. سعت الثورة إلى تفكيك الهياكل السلطويّة القائمة وإعادة توزيع الأراضي والثروات على الطبقة العاملة والشعوب الأصليّة، واضعة الأسس لهويّة وطنيّة جديدة.
لوحة "بورتريه شخصي على الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة" (1932).
معالجة الفوارق بين النخبة الثريّة والمعدومين عنوان عريض طَموح وواعد، أثّر بشكل كبير على أعمال كالو ذات الميول الشيوعيّة، فاستخدمت أسلوبها الحميميّ والشخصيّ جدّاً للتلميح إلى المناخ السياسي. فنّها، على الرغم من كونه تأمّليّاً وذاتيّاً، تغلغل بعمق في تيّارات سياسيّة، في سياق النهضة الثقافيّة التي تلت الثورة المكسيكيّة، والتي سعت إلى إحياء الثقافة الأصليّة وتعزيز العدالة الاجتماعيّة بوساطة الفن. طبع فنّ الجداريّات تلك الفترة، التي باتت تُعرف بـ"فترة الجداريّة المكسيكيّة" المتميّزة بالجداريات العامّة الكبيرة، التي تصوّر مواضيع اجتماعيّة وسياسيّة، في حركة ثقافيّة قادها فنّانون عُرفوا بـ"الثلاثة العظماء"، وهم: دييغو ريفيرا، ديفيد ألفارو سيكيروس، وخوسيه كليمنتي أوروزكو.
تناول فنّ كالو مواضيع الهويّة، المجتمعات ما بعد الكولونياليّة، الجندر، والطبقات الاجتماعيّة، ومزجت -في أغلب الأحيان- المعاناة الشخصيّة والتعليق السياسيّ، معبّرة في آنٍ واحدٍ عن حياتها المضطربة والسياق الاجتماعي-السياسي. وسمح لها توسّلها بالرموز، ونهجها الفريد في رسم صورتها الذاتيّة، بنقل رسائل معقّدة حول الحالة الإنسانيّة والظلم الاجتماعيّ.
"ثوبي مُعلّق هناك"
في العام 1933، وخلال إقامتها في الولايات المتحدة، رسمت كالو "ثوبي مُعلّق هناك"، وجمعت فيها رموز التصنيع الأميركيّ مع مشاهد الفقر والبؤس، مسلّطة الضوء على الفجوة بين الأثرياء والفقراء. رمزت اللوحة إلى خيبة أمل كالو بالحلم الأميركي، وإلى دعمها للإيديولوجيات الاشتراكيّة. ومن خلال تضمين اللوحة المنتمية إلى المدرسة السوريالية رموزاً أميركيّة، مثل تمثال الحرّية ومبنى إمباير ستيت، قارنت كالو المثاليّةَ التي روّجت لها أميركا بالواقع القاسي لعدم المساواة الاقتصاديّة.
لكن تضمين السياسة في أعمال كالو لم يبدأ مع اللوحة التي أرادت منها بياناً صريحاً على تعلّقها بالمجتمع المكسيكيّ، إذ كانت كما لو أن أثوابها تسير وحدها في أميركا، فيما جسدها وكلّ ما يحتويه، من عقل وروح وقلب، قابع في بلادها.
على سبيل المثال، في لوحة "بورتريه شخصي على الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة" (1932)، صوّرت كالو نفسها واقفة بين عالمَيْن هما الولايات المتحدة المتصنّعة والمكسيك التقليديّة الأصليّة. جاءت اللوحة تعليقاً على التناقضات الثقافيّة والاقتصاديّة بين المجتمعَيْن الجارَيْن، مجسّدةً التضارب في مشاعر كالو تجاه الثقافة الأميركيّة وروابطها العميقة بالتراث المكسيكيّ، وممثّلةً الإرث والجذور كمصدر للقوّة والهويّة ضدّ الحداثة الأميركيّة المصوّرة في الخلفيّة.
عمل آخر بارز هو "الماركسية ستمدّ المرضى بالصحّة" (1954)، وفيه استعادة لمأساة كالو الكبرى، وتذكير بحادث الحافلة الذي تعرّضت له، من خلال تصويرها مرتدية المشدّ الطبّي، وتحتضن الإيديولوجية كمصدر للشفاء الشخصي والاجتماعي.
تصوّر اللوحة كالو وهي تقتبل رموز الماركسيّة وتترك عكّازتيها تسقطان، في إشارة إلى إيمانها بالشيوعيّة حلّاً لألمها المزدوج، الجسديّ والنفسيّ، فضلاً عن المشكلات الاجتماعية الأوسع التي شهدتها. تتضمّن اللوحة عناصر مثل المطرقة والمنجل، اللذين يرمزان إلى تعاطف كالو مع نضال الطبقة العاملة وأملها في مجتمع أكثر عدالة ومساواة.
استخدام الصور والفولكلور المكسيكيّ التقليديّ لم يكن مجرّد احتفاء بالتراث الثقافيّ، بل كان صرخة سياسيّة ضدّ الاستعمار والهيمنة الثقافيّة للغرب. فمن خلال دمج الرموز المكسيكيّة التقليديّة، نصّبت كالو نفسها مدافعةً عن الهويّة، ومعارضةً للإمبريالية الغربيّة، فأصبحت بذلك تجسيداً للثقافة المكسيكيّة، وثقافة الشعوب الأصليّة بشكل خاص، على الرغم من أنّها لم تكن مكسيكيّة تماماً. فوالدها كارل فيلهلم كالو المولود في ألمانيا، إمّا من أصل يهوديّ وهنغاريّ، وفق ما كانت تدّعي، وإمّا ابن سلالة طويلة من اللوثريّين الألمان، وفقاً لبعض الأبحاث الجديدة. أما والدتها، ماتيلدي كالديرون، فكانت من أصول مكسيكيّة وإسبانيّة.
يُنظر اليوم إلى تركيز كالو على جذورها الأصليّة أنّه فعل سياسيّ يتحدّى الانصهار في عصر العولمة. فمن خلال الاحتفاء بالتقاليد المكسيكيّة ورفض معايير الجمال والثقافة الغربيّة، أكّدت كالو فخرها القوميّ، ودعمت جهود ما بعد الثورة، لإعادة تعريف الهويّة المكسيكيّة. هذه العودة إلى الثقافة الأصليّة كانت جزءاً من حركة أوسع، تلت الثورة، لخلق هوية وطنيّة موحّدة تتبنّى تراث ما قبل الاستعمار.
"عمود مكسور"
تجاوزت مشاركة كالو في الحياة السياسيّة حدود فنّها. فقد كانت عضواً نشطاً في الحزب الشيوعيّ المكسيكيّ، واستخدمت مركزها العام للدعوة إلى العدالة الاجتماعيّة ودعم القضايا السياسيّة. أصبح منزلها الزوجيّ، "لا كاسا أزول" (البيت الأزرق)، مجمعاً للمثقّفين والناشطين، إذ عزّز زواجها بدييغو ريفيرا الشيوعيّ موقفها السياسيّ. وعلى الرغم من العلاقة العاصفة بينهما، فإنّ كالو وريفيرا كانا يتشاركان الالتزام العميق بالنشاط السياسيّ، ودعما الزعيم السوفياتيّ المنفيّ ليون تروتسكي، الذي عاش معهما في "لا كاسا أزول" فترة من الزمن.
في لوحة "العمود المكسور" (1944)، رسمت كالو جسماً شبه متداعٍ، مشدوداً برباطات المشدّ الطبّي، ومدعوماً بعمود متشقّق آيل إلى السقوط، كرمز لمعاناتها الجسديّة. الطبيعة القاحلة وراءها رمز خراب وعقم. كلّ شيء يوحي بالفناء، الدموع والمسامير والندوب والوجه المتهجّم، جميعها. عشر سنوات مضت، وفي دفتر يوميّاتها كتبت: "آمل أن يكون الخروج ممتعاً، وآمل أن لا أعود أبداً"، وانطفأت.