النهار

الطائف هو الطريق
الطائف.
A+   A-
نهاد محمود*


الحال الراهنة التي يعاني منها اللبنانيّون في معيشتهم اليومية، وفي مؤسّساتهم الرئيسيّة، وفي بؤسهم المطبق هي نتاج عوامل هي بمعظمها سياسيّ تعود إلى طبيعة وممارسات المنظومة القائمة على التحاصص المذهبيّ بين ملوك الطوائف، والذي أضعف المؤسّسات الدستوريّة ووضع السلطات الثلاث، التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة في قبضة قِلّة من المتنفذين الذين استباحوا مقدّرات البلد بعيداً عن الإعتبارات الأخلاقية والموجبات القانونيّة وبما يؤمّن مصالحهم الذاتية على حساب المواطنين على اختلافهم.

الأزمة هي إذن سياسية في جوهرها، وهو ما أجمع عليه الخبراء الأجانب في المؤسسات الإقتصادية والمالية الدولية .. فالحالة الراهنة هي من صنع حكّام البلد بحسب تقييمهم، وقد امتنعوا منذ سنوات طويلة عن الإستجابة للمطالبات المتكرّرة بالإصلاح التي صدرت عن مؤتمرات خصّصت لمساعدة لبنان منذ باريس 1 وباريس 2...

الأزمة الرئاسيّة ستنتهي، وكذلك الفراغ الحكومي وسيكون عندنا رئيس جمهوريّة وحكومة كاملة الصلاحيّات، ولكن إلى أين سيأخذنا كل ذلك، وما هي الرؤية التي ستقود خطاهم، وبأيِّ صلاحيّات سيتصرّفون؟... ومن سيتصدّى للمعضلات المتراكمة والمتعدّدة المصادر والأسباب.
في البلد أزمة حكم منذ عقود، وهناك من يعتمد العرقلة والتعطيل منذ سنين، والتهرّب من المسؤوليّة، بعد كل الكوارث، هو الصفة الجامعة للمقيمين على الشأن العام. فهل المشكلة في الدستور أم في الأشخاص؟...

تجاه الواقع المأسويّ والمعاناة المتصاعدة، كثرت إقتراحات الحلول للخروج من الوضع المتفاقم، ولكن في الكثير من هذه التصوّرات مجانبة للواقع والتجربة وتجاهل لمعطيات أساسية.

نبدأ بالتأسسيين وهم الذين يضمرون أو يصرّحون باعتقادهم أننا بحاجة لمؤتمر تأسيسي يضع أسساً جديدة للحكم في لبنان.. وكأنَّ الأمر بهذه السهولة، وكأنّ المشهد السياسي عامر برجال الدولة والقيادات المسؤولة وذوي الرؤى وأهل البصيرة.. إن من بيدهم الأمور يا سادة عجزوا بشكل فاضح في حلِّ أيّة قضية أصغر بكثير من ابتداع صيغة جديدة للحكم ولنا في أزمات الكهرباء والمياه والنفايات والإتصالات والمرفأ وسقوط النظام المصرفي بنتائجه الكارثية أمثلة صارخة على طبقة سياسية فاشلة وفاسدة وعقيمة لا يمكن أن يصدر عنها إلا الأذى للوطن وأهله. ولنتذكّر أنّ اتفاق الطائف نفسه لم يأتِ من إقدام أهل الشأن حينها على التصدّي لمشاكل بلدهم الغارق في الحروب لمدّة خمسة عشر عاماً. بل كان نتاج لِخطّة دولية مناسبة أتاحت للضغوط العربية والدولية أن تؤتي نتائجها في دستور لم يطبّق حتى الآن بحسب الرئيس نبيه برّي.

وهناك من يدعون لمؤتمر دوليّ لاستنهاضنا من كبواتنا وكأنّ القوى الكبرى طوع بناننا وليس العكس، فالدول لها حساباتها ومصالحها وفي كرمنا الكثير من الدِّببةِ الذين هم جزءا من المشكلة ولم يكونوا يوماً في وارد حلّها... إنه موقف يعكس تاريخاً من التسليم للخارج بالقرار وبأننا قاصرون عن تقرير أمورنا ومصيرنا من جهة، أو للإعتقاد بأن الشأن اللبناني شاغل للعواصم والعقول العالمية... الفكرة كلها قفزة في المجهول، والخوف من النتيجة يفوق الإطمئنان القريب والثقة العمياء بمن لا يستحقون ذلك. عدا عن أن الظروف الدولية لا تسمح للحكومات بهذا الترف..

ثم نصل إلى من يجدون الحل، كل الحل في اللامركزية الموسعة جداً جداً وينفون أية نوايا تقسيمية، وكأن الخلاف بين اللبنانيين هو على دفع فواتير الكهرباء، وأسلوب الحياة في هذه الناحية أو سواها، أو على مشاريع إنمائية محلية ــ الخلاف كان دائماً على قضايا مركزية تتعلق بهوية لبنان وعلاقاته الخارجية، وهي مواضيع لا يحلها الهروب إلى اللامركزية التي لا بدَّ منها وكما نصّ عليها دستور الطائف.. وليتذكر الحالمون بالنّقاء المذهبي بالمجازر المحلية التي لم يمرّ الزمن بعد لنسيانها.

إن في دستور الطائف نصوصاً حول الخروج التدريجي من النظام الطائفي، وحول اللامركزية وغيرها من شؤون الحكم. فأية نيّة جديدة ومخلصة للتغيير وتطوير النظام تجد مرجعية لها في مواد الدستور الحالي مما يوفر قاعدة صلبة للإنطلاق، ويضفي شرعية تفتقدها أيّ صيغة أخرى للعمل. بالإضافة إلى أن الإنطلاق من النص القائم يوفر الكثير من الخلافات والتناقضات المفترضة لأي تحرّك بهذا الإتجاه.

لقد ثبت بالتجارب المُرّة السابقة والراهنة ان النظام الطائفي هو الصيغة التي تعيق تقدّم البلد وأهله والتي أوصلت اللبنانيين إلى ما هم فيه حاليًّا. في دستور الطائف ما يرشدنا إلى الخروج من هذا المستنقع، ولا يكون الأمر بتغييرٍ في المحاصصات وتوزيع وظائف الفئة الأولى بل بالخروج من بنية المحاصصة التي ولّدت الفساد والشلل في إدارات الدولة واستنزفت ميزانيّتها وعطّلت

وما نحتاج إليه هو الوصول إلى نظام الكفاءةKleptocracyديناميّتها وكرّست نظام اللصوصية الذي يستحقه لبنان وأجياله الجديدة.. وعلى القوى الطامحة إلى لبنان جديد ألاMeritocracy تسمح بتدوير المحاصصة من مذهب إلى آخر فليس الحل في ذلك، وسنبقى عالقين في المأزق نفسه الذي أوصلنا إلى هذه الحال وفي ذلك تأبيد للنظام القائم وتجاهل لمستلزمات التغيير كما وردت في دستور الطائف.

أما المناداة بالحياد فلها مبرّراتها، ويمكن ممارسة الحياد دون مأسسته في هذه المرحلة فالقاعدة كانت أن لبنان مع العرب إذا اجتمعوا وعلى الحياد إذا اختلفوا، ثم أن الوجود الفلسطيني ثم السوري على الأرض اللبنانية، والتبعية لقوى إقليمية أمور تستدعي معالجتها قبل أن يُتاح للبلد تحقيق هذا الهدف.

إن التمسك بدستور الطائف كدليل للتغيير هو الأسلم سياسيّاً ومنهجيّا.. وهناك الكثير من العمل التشريعي لتصحيح أوضاع قائمة كالتي تعطي الوزير أكثر مما يعطى رئيس الجمهورية من سلطة ومهل لتوقيع القرارات.. وبدل التلهّي والإختلاف على سبل التغيير فلينصرف النوّاب الأفاضل إلى وضع تصوّر لصلاحيات مجلس الشيوخ مثلاً ودوره في النظام اللبناني مستقبلاً.. ليضعوا نظاماً داخليّاً لمجلس الوزراء حاكم البلد الفعلي.. ليعيدوا النظر في النظام الداخلي لمجلس النواب، ولتنظّم دوائر رئاسة الجمهورية وعلاقاتها بالسلطات والهيئات العامة بما ينسجم مع رمزية وسموّ هذا الموقع، ولتوضع القواعد لتحرير الرئاسات الثلاث من مذهبية فاقعة تهيمن على أجهزتها وبما يمنع تحويل الوزارات إلى ملكيات فئوية تركت آثاراً مدمرة على الإدارة العامة في العقود الأخيرة...

إن الطريق الأقرب للخروج من الترهّل والتأزّم والقحل الحاصل هو، إذا صدقت النيّات.. وهيهات .. بالعودة إلى دستور الطائف الذي لم يطبّق بالفعل، وبعد التحرّر من سطوة السلاح فقد أوكل إلى نظام الأسد الأب مهمة الإشراف على تطبيقه وكانت النتائج المعروفة.. ثم انقسم البلد عامودياً بما عطّل أيّ تفاعل وتواصل بين الفرقاء اللبنانيين، ولا يفوتنا أن الإرادات الخارجية وأدواتها الداخلية قد أخذت لبنان رهينة لمطامعها ومخطّطاتها الجامحة، وان مصيرنا ليس بيدنا لكن الأمل يبقى بتغير الأحوال وبأن يتصدى النواب الكرام، خاصة الطليعيّون منهم حين تسمح الظروف إلى مهام كثيرة وملحة رغم المصاعب البنيوية القائمة حتى في مجلسهم...ُ


*سفير متقاعد

اقرأ في النهار Premium